الذين يتبنون الثورة .. مع أن التبني حرام!

 

أشعر بالفراغ الاستراتيجي منذ أن صدر حكم محكمة القضاء الإداري بوقف بث 22 محطة ليبية تهاجم الثوار على القمر المصري 'نايل سات'، فبهذا لم أعد أشاهد المذيعة المبدعة التي تتحدث عن معجزات الأخ القائد، وكيف أن الله أجري الماء بين يديه، وكيف ان مجلس الأمن قد (تبني) عملية قصف الجماهيرية، مع أن (التبني) حرام في الإسلام!.

 


وقد راعني أن هذا الغياب لهذه المذيعة الفتاكة، تسبب في شيوع حالة التبني، الي درجة أننا نشاهد من كانوا ضد الثورة المصرية عياناً بياناً يتحدثون باسمها، ويعلنون أنهم كانوا في 'ميدان التحرير'، ويسرفون في الحديث عن (أبنائهم) الثوار، وقد شاهدت عبر احدي الفضائيات أحد رجالات أمن الدولة وهو يسرف في الحديث عن أبنائه الثوار، فقد (تبني) في غيبة من مذيعة التلفزيون الليبي الثوار، وعليه ذهب يطالب أبناءه بالتبني إلي عدم الاستمرار في الاعتصام، لكي تتحرك عجلة الإنتاج!
 

أهل الحكم في مصر يعتبرون ان استمرار الاعتصام في الميدان، أوقف حركة الكون، وبفضل الدعاية المكثفة سمعنا من يردد هذا الكلام ويحمل المعتصمين في التحرير كل مشاكل الكون، بما في ذلك مشكلة ثقب الاوزون، وحالة الاعتلال المناخي التي جعلت من القاهرة كما لو كانت صحراء نجد.

 


واحد بلدياتي اتصل بي من آخر الدنيا ليسألني باعتباري خبيراً: وأخرتها ايه في ميدان التحرير؟.. وسألته ان كان الميدان قد 'داس له على طرف'، أو ان كان المعتصمون قد عطلوا حركة ملاحة الأسماك في بحيرة ناصر، حيث يعمل صياداً بها، وفاجأني بقوله ان حاله قد وقف منذ الاعتصام الذي بدأ في 8 تموز/يوليو الجاري، ولم أقل له إن هذا الاعتصام هو رد فعل على عملية التباطؤ في محاكمة قتلة الثوار، وفي الالتفاف على مطالب الثورة، وفي التواطؤ مع منفذي سياسة الانفلات الأمني!. فقد قلت لصاحبنا أن معلوماتي في هذا الشأن ان حاله واقف منذ مولده.

 


اعلم حجم الدعاية الإعلامية وغسيل الدماغ الذي يتعرض له هؤلاء، من أناس يبدأ حديثهم بأنهم وباعتبارهم كانوا في ميدان التحرير، ثم يتبنوا الثوار في غيبة من مذيعة التلفزيون الليبي، ثم يعرجوا للحديث عن رفضهم للاعتصامات التي أوقفت حال البلد، ومنعت نهر الإنجاز الحكومي من أن يشق طريقه الي محدودي الدخل!.

 


في بداية الثورة، كانت الأمور واضحة، فالتلفزيون المصري الرسمي يقاد بواسطة فلول النظام، وكذلك المحطات الفضائيات الخاصة، فهي عطاء حكومي خاص لأصحاب هذه القنوات، وهم من رجال حسني مبارك ونجله 'المحروس' جمال، وان كان التضليل حينها يكون بالطلب من كبار السن من أمثالي ترك الشباب وعدم استغلاله في معارك تصفية الحسابات، كما لو كانت مشاكل الكبار مع أهل الحكم على واحدة، ولا مؤاخذة، ست.. وكان التضليل هنا مكشوفا من حيث مكان البث، لكن الأمور ليست على هذا الوضوح الان.

 


في المقابل فقد سمعت في هذا الأسبوع سائق لحافلة يقول لصاحبه، انه لولا (الولاد بتوع التحرير) لتم الإفراج عن كل المحبوسين الآن في سجن طره، من عناصر الحكم السابق!

 


يبدو أنه لم يتعرض لعملية غسيل مخ من قبل الإعلام الرسمي، الذي يدار بواسطة الذين تحولوا، وانتقلوا من العداء للثورة، إلي حالة التبني في غياب فتاة ليبيا، وهي ظاهرة 'المتحولون'، وهي ظاهرة لابد وان تفتح شهية طلاب الدراسات العليا في كليات الإعلام لدراستها وتحليلها، وأظن ان دراسة لنيل درجة الدكتوراة حول هذه الظاهرة ستكون مثيرة للغاية!

 



مفجر الثورة

 


قبل أيام كان احدهم يجلس وسط لفيف من الثوار على مقهى قريب من ميدان التحرير، وكان يخطب فيهم، باعتباره مفجر الثورة، ويطالبهم برفع سقف المطالب، وعلى بعد خطوات كانت صورته ضمن صور القيادات الإعلامية التي رفعها الثوار وطالبوا بعزلهم باعتبارهم فلول!

 


ومع أنه كذلك فقد جاء (يتبنى) الثورة باعتباره من فجرها، ولا تضحك فمحامي الرئيس المخلوع أطل علينا من قناة 'الحرة' وقال ان موكله هو أول من أيد الثورة، ولولا بقايا خجل لقال ان سيادة الرئيس كان في ميدان التحرير وفي يوم موقعة الجمل، وتصدى لبلطجية النظام البائد الذين قدموا ليقتحموا الميدان بالخيل والليل والبيداء تعرفني، من اجل إخراج الثوار بالقوة!

 


انظر إلي الفضيحة التي هي (بجلاجل) التي فجرتها جهات التحقيق التي تتمثل في ان الرائد متقاعد صفوت الشريف هو زعيم هذه الموقعة، ولنا ان نعلم ان هذا معلوم للكافة وقبل اجراء التحقيق، لكنه ظل بعيداً عن الهجوم عليه لأن الذين يتصدرون المشهد الإعلامي هم رجاله، سواء في الصحف القومية، أو الحزبية، أو الخاصة، وكان يستخدمهم في أيام مجده من اجل تصفية حساباته مع زملاء له في السلطة والحزب الحاكم، وتقرأ لهؤلاء فتظن أنهم مناضلون بالوراثة، مع أن الكفيل (وهو اصطلاح خليجي) هو الذي يقف وراءهم ويحمي ظهورهم!

 


فضيحة تليق بصاحبها، والذي قال في أيام الثورة الأولى وعبر تلفزيون الريادة الإعلامية بأنهم (باقون وشامخون)، وفي اليوم التالي تم حمله على المغادرة، ولولا تفجر هذه الفضيحة لوجدنا من يقدمه على أنه كان كتفاً بكتف مع حسني مبارك في ميدان التحرير!

 


ولكانت فرصة لا تعوض لسيادته في (تبني) الثورة وقد يساعده على ذلك غياب مذيعة التلفزيون الليبي بسبب حكم محكمة القضاء في مصر بحرماننا من طلتها المباركة.. بالمناسبة فقد أنساني الشيطان اسم هذه الحسناء، ولن أتوقف عن الدعاء لمن يبادر بذكر اسمها!

 


منذ نجاح الثورة، والأحزاب الصغيرة صنيعة جهاز مباحث أمن الدولة تتعامل على أنها من قامت بالثورة، وتهاجم الرئيس المخلوع، مع أنها كانت معه وضد الثورة إلى أن تنحى، وتولت بالنيابة عن الحزب الحاكم الهجوم على الدكتور محمد البرادعي الذي دمر العراق، مع ان مبارك نفسه هو الذي شارك في عملية التدمير وليس البرادعي.

 



حنان الأب

 


أحد الذين (يتبنون) الثورة الآن، مع ان (التبني حرام) كنت قد علمت بأنه من الذين دعوا لحضور حفل زواج جمال مبارك من ربة الصون والعفاف الآنسة خديجة الجمال، التي دخلت على عائلة مبارك (بالحنجل والمنجل) فتبدد شملها، وصارت أغنية المطرب الكويتي الذي لا يحضرني اسمه الآن: 'أنا في وادي يا ربي وولدي في وادي' معبرة عن الحالة.

 


ولأني كنت حينها أحصر كل طموحي في تدخل جراحي من عزرائيل، فالحل في موت أهل الحكم ولو في حادث 'توك توك' فقد ذهبت اسأل المدعو عن إحساسه وهو يصافح الرئيس، وينظر إليه من قريب!
انتظرت ان يقول لي أنه مريض ويأخذ نفسه بصعوبة.. أو ان وجهه أصفر بما يوحي أن ساعته قد حانته، أو أنه أحس بأننا عما قريب سنسمع أغنية 'بودعك'، لكن صاحبنا لم يكن على مستوي المسؤولية الوطنية، فجاءت إجابته نصاً ورب الكعبة وبجدية مؤلمة: 'حسيت بحنان الأب'.. خيبك الله إخدعني وقل لي أن عينيه جاحظتان، وان يده مهزوزة، وان شفتيه ترتعشان، وأنك حسيت انه مات في العام الماضي!

 


هذا الذي أحس بحنان الأب عندما اقترب من مبارك، ووضع يده في يده، وتلاقت الأعين.. مشتاق ينظر إلي مشتاق، (يتبنى) الآن الهجوم عليه باعتباره مفجر ثورة 25 يناير وما قبلها وثورة 1919 أيضا.

 


ومنذ نجاح الثورة وأحد هؤلاء لا يكف عن تبنيه للثوار بالحديث عن (أولادنا الثوار) .. (أبناؤنا شباب الثورة).. وأحياناً يقول: (ولادي) ليذكرنا بالرئيس خالد الذكر أنور السادات وهو يتحدث عن (ولادي) شباب الجماعات الدينية المتطرفة.. وأنا باقول (يا ولادي) انتم مضحوك عليكم.. وكلكم أولادي.. وقد كان هذا يليق بدور العمدة الذي كان يعشق القيام به، أو كبير العائلة المصرية، على حد قوله.

 


برنامج يسري فودة على قناة 'اون تي في' استضاف صاحب لازمة أولادنا الثوار، والذي ذهب مهرولاً لأنه سيظهر في أهم برنامج على المحطات المصرية ما ظهر منها وما بطن، وفي حضرة مذيع مرموق كيسري المذكور، فبدا مبتهجاً، ربما ظن انه سيقدمه باعتباره الأب الروحي لكل ثوار التحرير، لكن بعد لحظات كان يسري يعرض لقطات من فوق كوبري السادس من أكتوبر، الذي كان مخصصاً لبلطجية النظام ومن فوقه كانوا يقذفون الثوار بالطوب والحجارة، وكان مكانهم الاستراتيجي في يوم موقعة الجمل.

 اقتربت الكاميرا من الواقف على الكوبري، فارتج على الضيف المبتهج، فإذا به هو يتحدث مع أحد البلطجية.
يسأله يسري ماذا كنت تفعل هناك.. فيقول ان مكتبه قريب من الكوبري!! وللعلم فانه ليس كوبري للمشاة.

 


ولم يكن صاحبنا يتحرك، فقد كان واقفاً يدير أمراً ما، ويسأله يسري بهدوئه المبدع: ولماذا تقف هنا؟ فيقول: انه كان يتابع موقف ( أولادنا الثوار).. ساعتها شعرت بمعني حنان الأب الذي يضحي بنفسه من اجل أبناءه!.

 


في أيام الثورة كان مجرد الاقتراب من هذا الكوبري خطرا عظيما، يمكن ان يكون ثمنه حياة الإنسان، ليس لأنه كان محتلاً من قبل بلطجية النظام، ولكنه كان أيضاً قريباً من مكان وجود القناصة، الذين أصابوا وقتلوا أكثر من ألف من الثوار، لكن صاحبنا كان يقف معرضاً نفسه للخطر من اجل أن يطمئن على أبنائه، مع أننا لم نكن نشاهده في الصورة يحاول رؤيتهم، ومع ان الاطمئنان عليهم كان يستدعي النزول من فوق الكوبري والمشي خطوات ليكون بين من يريد الاطمئنان عليهم.

 


جبار يسري فودة في برنامجه على 'اون تي في' كما كان جباراً في برنامجه على 'الجزيرة'.. 'سري للغاية'، وهو محقق صحافي من طراز رفيع، وتمنيت ان يكلف بالتحقيق مع الرئيس المخلوع، فمؤكد انه سيعرف في نهاية التحقيق أين يخبئ أموالنا المسروقة، في الخارج أم في مصر بحفرة داخل خرابة قريبة من القصر الجمهوري؟!

 


ان ما جرى للواقف فوق الكوبري هو نهاية طبيعية لمن يرتكب خطيئة التبني ولو في غيبة مذيعة التلفزيون الليبي.

 

سليم عزوز - القدس العربي