الرأي العام "الكويتية"- معاناة البدون

قضية لها جذور عميقة أطرحها بين يديكم... قضية ترسم بكل أحرفها مناشدة للضمير الإنساني، إنها قضية أليمة تنهمر لها العيون دمعاً ويتقطع لها القلب ألماً، صوّرت لنا الآلام والمآسي في أبلغ صورها، كيف لا وهي قضية متعلقة بالكرامة الإنسانية التي هي أصل حقوق الإنسان، إن من الطبيعي من يطّلع على هذا الملف الخاص بهذه القضية سيرق قلبه بالضرورة وليس من الطبيعي في شيء ما هو عكس ذلك! تلك القضية التي رُسمت بل نُحتت في قلب كل من يتمتع بضمير حي، إنها ليست قضية من نسج الخيال بل هي واقعية أشبه بالخيال! تصف أصعب سبل المعيشة وأضنكها، أحد أطراف هذه القضية فئة هُضم حقها في هذا البلد، والطرف الآخر هو هذا البلد الذي يحسده صديقه على دستوره وديموقراطيته! ولن أحدد في طرحي لهذه القضية أي الأطراف هو الجاني وأيهم المجني عليه تاركة لكم وحدكم بل لضمائركم الحكم! ولو عرضتم هذه القضية على طفل لاستطاع بكل بساطة أن يحدد الجاني من المجني عليه! وأستسمحكم عذراً قد تتبعثر مني المفردات وتتفلت من ذهني الكلمات ليس قصوراً مني بل لشدة حزني وألمي.

 


إنها قضية «البدون في الكويت»، هؤلاء الذين حُرموا من أبسط حقوقهم الإنسانية بإرادة من البشر، نعم بإرادة من هؤلاء الذين شغلوا المناصب فاتخذوها تشريفاً لا تكليفاً، فلم يكلّفوا أنفسهم عناء إحقاق الحق وإنصافه، إنها قضية الحقوق الإنسانية المسلوبة هذه الحقوق التي هي ضمانات ربّانية لكل البشر وهي هبة منه سبحانه إلى جميع خلقه ليس لأحد، مهما كان منصبه، الحق في التصرف فيها أو نزعها، إلا أن هناك من لا يستطيع بل لا يرغب في التمييز بين الحقوق الإنسانية وبين انعدام الجنسية فيخالف كل ذلك عامداً قاصداً تحت مزاعم وشعارات لا أستطيع تسميتها تسمية أرقى من كونها زائفة لا علاقة لها لا بضمير ولا بأمن ولا بقانون ولا بدين ولا بعرف...

  


وأنطلق معكم لنقلب بعض أوراق الملف الحقوقي الخاص بــ«الطفل البدون» هذا الطفل الذي لم يتعلم من الدنيا سوى الفقر والجوع والدموع، وعند فتح هذا الملف سيفتح الحزن معه بابه على مصراعيه، لنستعرض معاً، بشكل مختصر، ما يعانيه هذا المخلوق البريء الضعيف، الذي ليس له أدنى ذنب في الظروف التي يعيشها فقد حرم هذا المسكين من أبسط ما يتمناه الطفل في عمره، نعم لقد حرم حتى من أن يلعب بألعاب تليق بطفولته، تخيل أيها الأب... أن يطلب منك طفلك البريء أبسط حقوقه الطفولية وهي لعبة زهيدة الثمن إلا أنك لا تستطيع إحضارها له، ألا يعتصر قلبك ألماً؟ ليس هذا فحسب بل حرم من أن يأكل الحلوى إلا في أضيق الحدود فهو يكاد ينسى ما هو طعمها، بل وحتى الأحلام باتت بعيدة المنال بالنسبة لهم فلا يكاد يحلم الطفل إلا ويكتشف أنه ليس له الحق في النعيم بتلك الأحلام، تصور حتى الأحلام باتت مسلوبة ليس لشيء وإنما بسبب حدّة الواقع فبمجرد أن يفتح عيناه يبصر واقعاً يرفضه فتتحول تلك الأحلام إلى كوابيس مزعجة، ويتوحّد حلمهم جميعهم بلا استثناء ليصبح حلمهم الأوحد هو التفات المجتمع إلى معاناتهم والكف عن عزلهم ونبذهم، ويصبح أقصى طموح ذلك الطفل «البدون» أن يرتدي ملابس المدرسة، وأن يجلس على مقاعد الدراسة، وأن يعرف كيف يكتب وكيف يقرأ، من المسؤول عن كل ذلك، من المُلام عن وجود (50.000) طفل «من البدون» تتراوح أعمارهم من (5 أعوام إلى 18 عاما) من دون تعليم في الكويت، أين حقوق هذا المخلوق البريء؟ هل من المعقول أن تضيع حقوقه وسط معمعة القانون والسياسة والأمن القومي!

  


وليس ذلك فحسب بل تخيل أن طفلك الذي تتمنى له مستقبلاً زاهراً باهراً، أجبرتك ظروفك لزجّه بالشوارع وعند الإشارات المرورية ليبيع بعض الأشياء الزهيدة ويلبس ملابس رثة وينتظر شفقة الناس عليه ليعود فرحاً مسروراً بما جناه، بل ولا يسلم من مطاردة الشرطة له، في الوقت الذي ينام فيه أقرانه في منازلهم أو يخرجون للتنزه مع عائلاتهم ويلبسون من أفضل الملابس وأغلاها ثمناً، وما كان هذا التمايز لشيء إلا لسبب واحد وهو أن طفلك المحروم من أبسط حقوق الحياة هو من فئة «البدون».

  


أسألكم طامعة بإجابة واضحة صادقة، يا من وقّعتم بمحض إرادتكم على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ما هو غرضكم، هل هو إنساني بحت أم «برستيج» أمام الدول الأخرى؟ يا من وقّعتم على نصوصه التي من بينها بل ومن أهمها هو (أن لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات دون تمييز......)، أين التطبيق ولو بنسبة بسيطة لبنود هذا الإعلان، ولنقل أنكم غير مؤمنين بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان ولا ترون ضرورة في احترامه، فأين أنتم من الإعلان الإلهي لحقوق عباده الذي يعلو ويسمو على كل هذه الإعلانات والمواثيق والاتفاقات الدولية، وإن كنتم على يقين أن هذا الإعلان العالمي برقابته الدولية ليس ذا تأثير، فأين أنتم من الرقابة الإلهية!

  


إلى متى هذه المعاناة المصحوبة بقدر عظيم من الإهانات، نصف قرن... نعم إنها (50) عاما وهذه الحقوق الإنسانية مسلوبة، ومن جهة أخرى هذه المشكلة تتفاقم وكأن الزمن كفيل بحلها إلا أنه وللأسف زاد تعقيدها، متى سنعترف أن هذه الفئة صاحبة حق إنساني كما بقية البشر؟ وكون أصحاب هذه الفئة بلا هوية فذلك لا يعطي الحق لأي كان سلبهم حقوقهم الإنسانية.

 


ومني إلى أصحاب القرار، إلى متى ستستمر هذه المعاناة، إلى متى سيبقى الوضع متعسراً ومعلقاً ومثار للجدل داخل الأوساط المحلية والبرلمان الكويتي، إلى متى سيلتبس الحق بالباطل، إلى متى ونحن لا نمتلك الرؤية الواضحة الجليّة للمستقبل، أو قد يمتلكها البعض ويتعامى عنها، إلى متى هذا العمى التخطيطي وهذا العجز وعدم الجرأة في اتخاذ القرار، متى ستوضع نقطة النهاية لهذه القضية، والتي ستكون نقطة بداية حياة إنسانية كريمة لهذه الفئة؟ هل من المعقول أنه يصعب علينا أن نتجاوز كونهم وأصلهم وفصلهم و«بدونيتهم» ونصل إلى مرحلة من التجرد لا نتذكر فيها سوى أنهم بشر يحتاجون كما نحتاج لا يقلون عنا بشيء من الإنسانية.

الرأي العام - عائشة العوضي - 31 - 8 - 2010