الزمان "العراقية"- العراق والجوع

حسب تقديرات منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (فاو) التي تتخذ من روما مقرا لها أن هكتارا واحدا من الأرض الزراعية يكفي لتامين ما يحتاجه 14 شخصا من الغذاء علي مدار السنة، أي ان الأسرة المتكونة من سبعة اشخاص باستطاعتها أن تعيش حياة كريمة فوق دونمين من الأرض الزراعية (أو خمسة آلاف متر مربع).
واذا ما احتسبنا هذه الأحصائية بالنسبة الي العراق، وعلي اعتبار ان مساحة الأرض الخصبة القابلة للزراعة فيه تبلغ 22 مليون دونم، فان الانتاج الزراعي في العراق يُفترض ان يكفي لتغذية 77 مليون مواطن. أما اذا احتسبنا مساحة الأرض المزروعة فعليا اليوم، والبالغة حوالي 13 مليون دونم، بامكان نحو 45 مليون مواطن عراقي الحصول علي غذائهم دون اللجوء الي الاستيراد من الخارج!.
واذا علمنا ان العراق يستورد نحو 70% من احتياجات السوق المحلية للمواد الغذائية، وأن نحو ربع سكان البلاد يعيشون تحت خط الفقر - حسب الاحصائيات مؤخرا للجهاز المركزي للأحصاء في وزارة التخطيط - وأن تفشي الجوع كان يمكن ان يكون أكثر قتامة لولا البطاقة التموينية المدعومة من قبل الحكومة؛ أمكن تصور حجم مشكلة الأمن الغذائي? شبه المنسية وسط اعلام مهووس بتطور المشهد السياسي - والمتأتية عن التراجع المرعب في انتاجية الأرض، أو انعدام شروط الأنتاج الزراعي في المساحات المستصلحة أو المزروعة أصلا، أو تفشي الفقر بحيث لايتمكن ربع السكان من شراء الغذاء المتوفر في الأسواق!.
أمن غذائي أم معجزة؟
كان تحقيق الأمن الغذائي في العراق - وما يزال الي اليوم- تحديا استراتيجيا وهدفا للحكومات المتعاقبة، وان لم يكن رئيسيا علي الدوام، الا انه لم يتحقق منذ عقود. فقد كان الانتاج الزراعي في النصف الاول من القرن العشرين - تجنبا للخوض في التأريخ القديم لوادي الرافدين- متناسبا، الي حد ما، مع الاحتياجات المحلية. وباستثناء فترة انتعاش التنمية التي حصلت في السبعينيات، نتيجة الطفرة الكبري في أسعار البترول، وما رافقتها من زيادة في القدرة الشرائية للمواطنين العراقيين، وبالتالي التحسن في قدراتهم علي الحصول علي الغذاء، المستورد في غالبيته؛ فقد تفشي الفقر بصورة مروعة في المجتمع العراقي، وبلغ ذروته الكارثية خلال العقود الثلاث الأخيرة وبالأخص قبيل الحرب في عام 2003 .

اجراءات قسرية
لقد كان تدهور الانتاجية الزراعية صفة مميزة للقطاع الزراعي، بسبب فشل سياسات وبرامج "الاصلاح الزراعي" ، الذي أُفرغ من مضمونه الاقتصادي، لصالح شعاراته الأيديولوجية والسياسية، وأسفر عن اقحام الريف وسكان القري بالنشاط السياسي الحزبي القسري، والهادف - حسب الايديولوجية الحاكمة- الي توسيع القاعدة الاجتماعية لنظام الحكم، بعيدا عن ظروف التنمية الريفية، أو تكاملها مع المدن، عن طريق تطوير شبكة المصالح الاقتصادية المشتركة، الرامية الي خلق اعتماد متبادل ما بين المدن والمناطق الريفية، تسمح للطرفين بالاحتفاظ بخواصهما الاجتماعية، في نفس الوقت يضمحل التمايز النسبي بينهما ليتيح أمام جميع المواطنين فرصا متساوية من اجل احراز التقدم.
بالأضافة الي السياسات المركزية، الاشتراكية الطابع - كما كان يُسوّق- التي اعتمدها نظام الحكم السابق، وتطبيقاته في تحديد أسعار الخضروات والفواكه والحبوب، اعتباطا وفي كافة أرجاء البلاد، عن طريق خلية مركزية مرتبطة بأعلي أجهزة الدولة التنفيذية؛ وانزال أقسي العقوبات بالمخالفين، بغض النظر عن الجغرافية، ومعطيات السوق، أوعاملي الربح والخسارة. فقد اتبعت السلطة السابقة سياسة المغامرات، ودخلت حروبا متعاقبة، تُوّجت بعقوبات اقتصادية قاسية استمرت أكثر من اثني عشر عاما، تقلصت خلالها مائدة العائلة العراقية الي حدود مأساوية، وخيم شبح الجوع علي المجتمع بكافة فئاته. كما لم تستجب السلطة آنذاك لفكرة "النفط مقابل الغذاء"، التي تجسدت بقرار مجلس الأمن الدولي المرقم 986 الصادر في نيسان/أبريل 1995، والقاضي باستخدام جزء من عائدات النفط لشراء مواد غذائية للعراق، الا أنه بعد ان عصف الجوع، واستفحل الفقر الي حد لم يستطع معه الدكتاتور الاحتفاظ بكبريائه المزيف، فركع للارادة الدولية لسد رمق مواطنيه بعد ثلاثة عشر شهرا من صدور ذلك القرار.
كما ارتكب نظام الحكم قبل ذلك مجزرة اعدام جماعية، وقع ضحيتها أكثر من أربعين تاجرا من تجار المواد الغذائية في العاصمة بغداد في نيسان/ابريل من عام 1992 بحجة التلاعب بالأسعار، في نفس الوقت الذي وقعت فيه الحروب المتعاقبة لتدمر ما تبقي من بني تحتية، ومنها تلك المرتبطة بالقطاع الزراعي، واستكملت فيه دول الجوار انشاء سدود علي نهر الفرات بشكل خاص، وبعض روافد نهر دجلة، مما قلل من حصة العراق من الموارد المائية التي تعتمد عليها الزراعة كليا باعتبارها زراعة ديمية .
وفي خضم الحرب مع ايران، قرر نظام الحكم تجفيف الأهوار العراقية، وهي المسطحات المائية الكبري في جنوب البلاد، التي كانت تزود السكان بجزء كبير من احتياجاتهم الغذائية، وخاصة الأسماك والمنتجات الحيوانية ، مما عرّض عشرات الآلاف الي الموت أوالجوع والنزوح، حتي سقوط النظام عام 2003 حيث توفرت فرصة لاعادة انعاش الأهوار وغمرها بالمياه، والتي تزامنت - لحسن الحظ - مع سنوات جريان معتدلة في نهري دجلة والفرات، وتمكن النازحون واللاجئون من العودة الي مناطقهم، وأصبح بمقدورهم الحصول علي غذائهم دون تدخل مباشر من قبل الحكومة، قبل أن يضرب الجفاف المنطقة مجددا في عام2007 !.
لأ اريد أن استطرد في استعراض كافة العوامل التي أدت الي انعدام الأمن الغذائي في بلد يمكن فيه زراعة حتي الصحراء القاحلة، فضلا عن الأرض الخصبة!. ولكن يمكن اجمالها بالأخطاء الفادحة في تسيير هذا القطاع (وقطاعات الدولة الأخري بطبيعة الحال ). وسوء الأدارة، الذي انعكس علي شكل قرارات تعد بمثابة جرائم كبري، كتجفيف الأهوار، التي كانت تغطي نحو 50% من حاجة السوق المحلية من الأسماك ومنتجات الحليب، فضلا عن دورها في المحافظة علي عذوبة مياه شط العرب. وقرارات وحشية كمعاقبة الفلاحين الذين لايلتزمون بقرارات التعسف في الترخيص في زراعة بعض المحاصيل او تحريمها ، واعدام التجار وممثلي القطاع الخاص الذين يسهمون باستقرار سوق الغذاء، وسياسات فاشلة أدت الي انتشار مروع للتصحر، علي حساب الغطاء النباتي، وحروب حولت الأراضي الخصبة الي خراب شامل، وخلق مجتمع لم تعد له علاقة بالانتاج ان لم يكن مرتبطا بآلة الحرب، وما أن يخرج من حرب حتي يدخل أُخري.
وفي عام 2003 فاق عدد السكان المصنفين تحت خط الفقر 12 مليون نسمة، من اصل 26 مليون هو مجموع سكان العراق. وقد انخفض هذا العدد في عام 2007 الي 7 ملايين نسمة. وتهدف الخطة الحكومية المعلنة في نوفمبر/تشرين الثاني 2009، تحت عنوان "الأستراتيجية الوطنية للتخفيف من حدة الفقر 2014 -2010" الي تخفيض العدد الي خمسة ملايين شخص في غضون خمسة أعوام. وبما أن عام 2010 قد دخل الآن في ربعه الأخير، دون ان تدخل الأستراتيجية حيز التطبيق، فان أهداف الأستراتيجية المؤّمل تحقيقها، ستدفع عاما آخر الي الوراء، اي الي عام 2015. واذا حصل ان تمكن العراق من تضميد جراحه، واستمر علي أساس توفر نفس الشروط التي افترضتها الأستراتيجية الوطنية للتخفيف من حدة الفقر، سيتحقق جزء من الأمن الغذائي المنشود، أي حصول جميع المواطنين العراقيين علي ثلاث وجبات يوميا، بحلول عام 2028، وهذا بالطبع أفق زمني بعيد، مقارنة بدول أمريكا اللاتينية، الأكثر فقرا من العراق بالطبع، حيث التزمت تلك القارة بالقضاء التام علي الجوع بحلول عام 2025.

الحلم المفقود
ان انتشار الفقر والجوع وانعدام الأمن الغذائي، هي ظواهر تهدد مستقبل العراق تهديدا جديا (وان لم يكن التهديد الوحيد). فالأرهاب الذي يتعرض له العراق اليوم هو خطر كبير، لكنه قابل للمعالجة السريعة، كالحسم العسكري مثلا. الا ان الجوع و الفقر وسوء التغذية هي مخاطر ذات مدايات مستقبلية سيعاني منها المجتمع بأجياله الحاضرة والمستقبلية، وستظهر علي شكل تقزم، ونقص في الوزن، وهشاشة، وعاهات جسدية ونفسية، وعجز وتلكؤ في التنمية الاقتصادية والبشرية، وانعدام فرص التكافؤ بين الجنسين، او بين الفئات العمرية، اذ أن الأطفال هم ضحيتها الاولي، اضافة الي أن مكافحة هذه الظواهر، ليست ممكنة فحسب، بل هي واجب انساني وأخلاقي.
ان مهمة القضاء علي الفقر وتحقيق الأمن الغذائي لا تقتصر علي وزارة الزراعة العراقية فقط - كما قد يتبادر للذهن - لأن الأمن الغذائي أكبر، وأشمل، وأكثر تعقيدا، من الانتاج الزراعي، أو دعم الفلاحين، أوتوفير المستلزمات المطلوبة للفلاحة، كمكافحة الآفات والخدمات الارشادية، علي أهميتها؛ بل هي مهمة وطنية كبري تحتم اطلاق حزمة من السياسات والبرامج والاجراءات الطموحة، التي تشترك بها عدة مؤسسات ، علي المستويين الوطني والقومي، ويمكن من خلال ذلك أن تلعب وزارة الزراعة دورها الريادي في انتشال القطاع الزراعي من تدهوره المتراكم عبر العقود، كي يقف علي قدميه، ويتأقلم مع الواقع الجديد بما فيه من تغيرات مناخية غير مؤاتية، وشحة متزايدة في موارد المياه المتاحة للزراعة، ولتحقيق الانتقال المطلوب في الأنماط الزراعية التقليدية السائدة، باتجاه محاصيل أكثر ربحية وتحملاً للظروف المناخية والطبيعية التي تزداد صعوبة مع الزمن. وأننا نري أن الأستراتيجية الوطنية للتخفيف من حدة الفقر تشكل نقطة انطلاق معقولة، اذا ما نقلت من الورق الي حيز التنفيذ، واذا ماتمت مأسسة هيئتها العليا بحيث تكون قادرة علي العمل بغض النظر عن تشكيل الحكومة من عدمها، مثلها مثل أية مؤسسة حكومية أخري. ان هذا العام يحمل مؤشرات ايجابية في انتاج القمح، مثلا، وهو المحصول الذي يستورد منه العراق 3.7 مليون طن سنويا، فقد قدر انتاج هذا العام بحوالي ثلث الكمية المستوردة أي حوالي 1.25 مليون طن، الي جانب 300 ألف طن من الارز وأكثر من 350 الف طن من محصول الذرة، وكذلك الأمر في انتاج التمور والخُضر وغيرها. وتؤكد هذه المؤشرات علي ان العراق قادر علي تحقيق الأمن الغذائي لمواطنيه خلال وقت قصير نسبيا ولكنه بحاجة الي قدر غير قليل من السياسات الذكية.
سفير العراق لدي المنظمات الدولية المعنية بالغذاء والزراعة والمعتمدة في روما.

الزمان - حسن الجنابي - 28 - 8 - 2010