الزمان "العراقية" - الاكراد والامريكان

الجنرال بابكر زيباري رئيس اركان الجيش العراقي

لا يمكن اعتبار التصريح العلني الذي صدر عن رئيس اركان القوات المسلحة العراقية، الجنرال بابكر زيباري، في مؤتمر صحفي عقدة مؤخرا، وذكر فيه بأن العراق غير قادر علي الوقوف علي قدميه لحين عام 2020 وإن علي القوات الأمريكية أن تبقي حتي ذلك التاريخ، موقفا يتعلق بالمسائل الأمنية العامة بل هو موقف متمرد يحمل في طياته طابعا عرقيا وطائفيا. وليس من المستغرب، أن يقوم رئيس وزراء العراق المؤقت والمنتهية ولايته، بتكذيب ما جاء في تصريح زيباري وإصراره علي سيطرة السلطة المدنية علي صنع القرارات في العراق. فمن الناحية الدستورية، رئيس الوزراء مطالب بالالتزام بقرارات البرلمان المنتخب، الذي وضع جدول انسحاب القوات الأمريكية من العراق. ومما يذكر أن أن إدارة الرئيس باراك أوباما ملتزمة ايضا من جانبها بالانسحاب من العراق.
ويعرف أن زيباري كان مقاتلا قديما في البيشمركة الكردية وعضوا بارزا في الحزب الديمقراطي الكردستاني التابع لمسعود البارزاني. وما لا أستطيع فهمه هو عدم إشارة صحيفة الغارديان التي نشرت المقابلة إلي هذه المعلومات عن زيباري، فمن الغريب أن يعمد صحفيون، سيما أولئك الذي يخاطرون في السفر إلي أماكن مثل بغداد، إلي توجيه انتقادات غير ضرورية في بعض الأحيان بشأن أمور يسمعونها، ولكنهم عندما ينقلون معلومات مهمة يهملون جوانب جوهرية تضر بالقارئ.
لدي الاكراد أسباب عديدة تدفعهم لتفضيل بقاء القوات الامريكية في العراق. لقد تمكنوا من تأسيس دولة مستقلة لاغراض ودوافع كثيرة تضم ثلاث محافظات عراقية (رغم أن الحدود المحلية لهذه المحافظات واجهزتها قد ازيلت منذ زمن بعيد)، تسمي كردستان. ويمكن اعتبار كردستان بمثابة تايوان الشرق الأوسط، وهي دولة منفصلة ومستقلة لا يمكن إطلاق عليها اسم الدولة لأن ذلك من شأنه أن يشعل حربا في الشرق الأوسط (أو سلسلة من الحروب). غير أن كردستان تمنح سمات الدخول، وتمنع القوات العراقية من دخول اراضيها، وتوقع عقودا أجنبية دون استشارة بغداد. وهنا اتساءل: ما هو الاسم الذي يجب أن تطلقه عليها؟
رغم كونها شبه مستقلة، يرتبط الأكراد في كردستان بعلاقة غريبة مع حكومة بغداد، حيث ينتخبون أعضاء في برلمان العراق في الوقت الحاضر ويتولون رئاسة البلاد. وفيما يقارن البعض ما يجري في العراق بحال مقاطعة كيبيك الكندية، غير أن تلك المقاطعة تمتلك استثناءات أقل بكثير مما هو عليه الحال مع كردستان. لكن الحالة هناك اقرب الي حالة احد الضباط الامريكيين البارزين الذين عملوا في الحرب الاهلية الامريكية مع طرفي النزاع.
لا يكتفي الاكراد ذوو النزعة القومية بهذا الوضع التفضيلي (انفصال عملي مع تأثير هائل علي الحكومة المركزية)، حيث يرغب القوميون بضم أجزاء من جميع المحافظات العراقية الأخري التي تحتوي علي وجود ملحوظ للاكراد بين سكانها إلي أقليمهم. غير أن السكان العرب لتلك المناطق (شيعة وسنة) يرفضون بقوة التطلعات التوسعية لكردستان علي حساب العراق العربي، رغم أن معظمهم تقريبا يوافقون علي احتفاظ الأكراد باراضيهم الحالية وامتيازاتهم الخاصة.
تم تسجيل مواجهات بين القوات الكردستانية، البيشمركة، والقوات العسكرية العراقية، في أجزاء من العراق في مناطق تبعد أكثر من 320 كيلومترا عن حدود كردستان، بسبب سيطرة البيشمركة علي مواقع في تلك المناطق. إن الاوضاع هناك تهدد بحدوث حرب أهلية في العراق، حتي أن قائد القوات الامريكية في العراق المنتهية مدته، راي اوديرنو، قرر وضع قوات امريكية مع دوريات مشتركة من القوات المسحلة العراقية والبيشمركة بغية تفادي المواجهات بين الجانبين. وبما أن الولايات المتحدة الامريكية لن يكون بوسعها من الآن فصاعدا، وعلي نحو متزايد، تقديم خدمات الوساطة تلك، اقترح اوديرنو جلب قوات من الأمم المتحدة لتأدية المهمة، لكنه جوبه بثورة غضب عارمة من العراقيين التواقين للخروج من سنوات الوصاية القاتلة للامم المتحدة (يعد العراق واحدا من أبرز أشكال فشل الأمم المتحدة، حيث تتحمل المنظمة الدولية مسؤولية مقتل أعداد كبيرة من المدنيين عبر نظام العقوبات الذي أوجدته، وتدمير اقتصاد بلد نام واعد، والفشل في منع حرب عدوانية غير شرعية شنها جورج دبليو بوش علي البلاد).
لقد وقف الجيش الامريكي بشكل دائم إلي جانب الأكراد في قضايا تتعلق بالمسائل العسكرية والسياسية، علي حد سواء، وعليه لن يكون من المستغرب أن يخشي زيباري مغادرة القوات الأمريكية. فمن دون وجود للحماية الأمريكية، يتعين علي الأكراد أن يواجهوا العراق العربي لوحدهم. بالاضافة إلي ما تقدم، طالب السياسيون العرب في بغداد، ممن يرغبون بوضع حد للاطماع التوسعية لكردستان، في مناسبات عدة، بتلقي الدعم من تركيا في مسعاهم ذاك. إن من المتوقع لتحالف بين بغداد وأنقرة ضد مساعي كردستان بضم كركوك وأجزاء من محافظتي نينوي وديالي أن يتعزز ويتوطد مع رحيل الولايات المتحدة.
من وجهة نظري، فان الاطماع التوسعية ذات الطابع القومي الرومانسي للحزب الديمقراطي الكردستاني قد عفا عليها الزمن ولن تكون مقبولة لدول الخليج، ومن المتوقع أن تتعرض الي الفشل بفعل التطورات الاقتصادية. إن كميات النفط الموجودة في جنوب العراق أكثر مما هي عليه في كردستان، وإن ضخ وتكرير هذه الكميات سيحتاج إلي قوة عمل ماهرة وكبيرة. ومن شبه المؤكد أن تنجذب أعداد كبيرة من الأكراد إلي قاطع البصرة للعمل في حقول مثل الرميلة وسواها (بل أن هناك المزيد من الذهب الأسود في محافظة ميسان لم يتم استغلاله حتي الآن). ومثلما تم تقليل أثر القومية الكردية في تركيا من خلال نشر الأكراد في عموم البلاد كعمال في قطاعات الاعمار والصناعات الخفيفة (والطريقة التي صوتوا عليها مثل جيرانهم الاتراك في اسطنبول ومناطق أخري)، فقد تتضاءل التطلعات القومية للاكراد في العراق وتلقي المصير نفسه من خلال هجرة كبيرة للعمال إلي المحافظات الجنوبية وهو الأمر المتوقع حدوثه في غضون السنوات العشرين المقبلة. (إذا ما نظرنا إلي أقصي الجنوب في الخليج العربي ــ الفارسي، فأن تلك الدول لديها عدد سكان صغير مما دفعهم إلي استيراد ملايين الضيوف العمال من الهند وباكستان وسريلانكا والنيبال، الخ، غير أن العراق لديه ما يكفي من القوة العاملة، بما في ذلك الأكراد، حيث يكون من المتوقع حدوث هجرة عمالة داخلية ذات حجم كبير).
علي أية حال، ليس بوسع زيباري تحديد أية مهمة يمكن أن تؤديها القوات الأمريكية في مجال الأمن في العراق خلال السنوات العشر المقبلة أكثر من تقديم الخدمات اللوجستية (النقل والامداد) والدعم الجوي، وأن الدعم الأخير ممكن تقديمه من قطر. لم تعد الولايات المتحدة تُسير دوريات مستقلة وفاعلة في المدن العراقية وعليه فانها تفقد علي نحو تدريجي ذلك النوع من المعلومات الاستخبارية الذي يتيح لها تدخلا فاعلا. لقد انخفض حجم العنف علي نحو كبير مقارنة بالفترة التي كانت فيها الولايات المتحدة تسيطر بالكامل علي البلاد.
إلي جانب كون زيباري منحازا ومخطئا، فانه قد تمرد علي قيادته المدنية. كان البرلمان العراقي قد صادق علي اتفاقية وضع القوات (صوفا) التي تطالب بانسحاب القوات الأمريكية من العراق بحلول عام 2011. كان ذلك قرار الحكومة المدنية. إن محاولة جنرال لازال بالخدمة بتقويض هذا القرار يعد مؤشرا سيئا للغاية، ولو كان هناك حكومة عراقية في الوجود لكانت قد عزلته.
الزمان  - يوان كول - 19 - 8 - 2010