الشابة التي أنفقت 138 جنيهاً

 

 

لا أدري ما كان يوازيه ذلك المبلغ في ذلك الحين بالضبط، وإن كان قليلاً أم كثيراً، لكنني أعرف أنه في عام 1948 مع سِحْرِ وإرادةِ امرأةٍ اسمها هند كانت المائة وثمانية وثلاثين جنيهاً كفيلة بأن تنشئ تدريجياً مدرسة داخلية كاملة مع كليات للفتيات، وبعثات دراسية لمن ليس بمقدورهن التعلم، وأن تشكل حالة تربوية وتعليمية متميزة في مسيرة الحفاظ على الوطن المشتت، وأن تفلح قبل هذا جميعاً في إنقاذ الآلاف من الأطفال الفلسطينيين الذين كان لينتهي المطاف بهم في الشوارع ضحية الجوع والجريمة والتشرد.

اسمها كان هند الحسيني، وهي التي أنشأت عبر العرق والدموع مؤسسة "دار الطفل العربي"، وعملت بجد وإصرار كي تكون واهبة الحياة لمئات الأطفال ممن تعثر بهم الحال ولم يحظوا سوى بالتشريد والخوف بعد أن تعرضوا لنيران الإبادة التي قامت بها العصابات الصهيونية لدى احتلال فلسطين.
جمعت الشابة مدخراتها حين أتت بأطفال دير ياسين الذين فقدوا أهلهم وسط الكارثة، وقدمت لهم السقف والمأوى، والحياة الكريمة والأمل، وأتت بنهج جديد من التعليم والرعاية، وبطريقة مبدعة في الحفاظ على القدس والقضية الوطنية.


كنت أتابع صور ذكراها وانا أشاهد فيلم "ميرال" الذي اقتُبس عن قصة نجاح رولا جبريل، إحدى طالبات مدرسة "دار الطفل العربي"، التي صارت مذيعة تلفزيونية معروفة في إيطاليا. وكان التأثر يغمرني كلما بدت في الفيلم هند التي كانت قدوة طفولتي، وشكَّلتْ ضميري ووجداني لزمنٍ طويلٍ بعدها. كنتُ طالبة في مدرسة "دار الطفل"، وتغيرت حياتي عندما علمتني المدرسة التي أسستها السيدة الجليلة بأن ما أعانيه لا يقتصر عليّ وحدي، وأن تبعات الحس الوطني من تضحيات لا تقتصر على العائلة الفردية لكل إنسان. بالنسبة إليّ، كان غياب الأب المناضل في السجن السياسي لفترات لا يستهان بها مثار إحساسٍ بالظلم والخسارة، وكان وجوده وراء القضبان وعدم التمتع بالأمان العائلي، وما يجره هذا من حرمان وتبعات مادية ومعنوية أخرى، مصدراً لأحزان غزت طفولتي، وقادتني إلى كآبة مبكرة. وهناك، داخل المدرسة التي ضمت فلسطين جميعها ممثلةً بأطفالها الذين عانوا الويلات والمآسي،

اكتشفت وجه فلسطين الآخر، وهو العطاء. السيدة الفاضلة التي أدارت المدرسة، وأسستها بكل كسرة جهد وأمل، علمتنا أنه يمكن لنا أن ننتصر على سوء الحظ وعثرات الحياة، إن مارسنا جماعياً إبداع الحياة بالحب والدهشة والقدرة على التغيير. ودربتنا هناك على أنه يمكن لدموع الحزن أن تنتصر على المستحيل، وأن تتحول إلى نجاح في إبداع أشكال شتى من الحياة والفن والنضال. في مدرسة دار الطفل تعلمت الأغاني الشعبية والدبكة، وأهمية الحفاظ على التراث، كما تعلمت الإصغاء إلى الموسيقى العالمية الكلاسيكية. وفيها أيضاً تعلمت الكتابة والتعبير، تماماً مثلما كنا نفعل عندما كانت "ست رقية" تعلمنا مزج الألوان ورسم زهرات "البانسيه" الملونة التي تزين محيط النافورة في الحديقة. وهناك على مسرحها قمت وزميلاتي بأدوار منوعة، بعضها من قصائد الشعر الإنجليزي، وبعضها الآخر من قصائد عربية. وهناك أيضاً قمت مع الطالبات بتأدية العرس الفلسطيني في مناسبة ميلاد السيد المسيح ورحلته في الأراضي المقدسة. فلقد تعلمنا هناك بأن طريق المحافظة على فلسطين لا يكون بالانغلاق على أنفسنا وبممارسة لعق الجروح، سواء صغرت أم كبرت، وإنما بأن ننطلق من عزتنا إلى العالم كي نشعر به، ويحس بما جرى معنا. وكي نخاطبه بالتعددية واللهجات الثقافية التي يجيد فهمها، وليس بالبكاء والاستعطاء وفرد فراش الذل والمسكنة.

وهناك تعلمنا أنَّ علينا أن نشارك في تنظيف المكان يومياً لأنه منا، ولا يمكننا التخلي عنه للقاذورات تحت حجة أنه مكان عام، كما يحدث يومياً الآن في الأماكن العامة في فلسطين. وقد ساعدتني ذكراها في فترة وجود المقاومة في لبنان على تكنيس طرقات مخيم شاتيلا في الحملات التطوعية التي كانت تقوم بها المتطوعات. وهناك في المدرسة اكتسبت وغيري حكمة العطاء عندما جعلت "ست هند" من كل طفلة كبيرة والدةً معنوية لطفلة أصغر منها، وبذا تعلمنا، وبطريقة عملية، أنه لا يمكن للإنسان العيش في فراغ، فلا بد من ضرورة الانتماء إلى مؤسسةٍ كانت هي مدرستنا.


لم تكن هند الحسيني مجرد سيدة جميلة وجليلة أرادت أن ترفع اسم فلسطين عالياً في وقت ارتبط فيه الاسم والمعنى بمخيمات الأسى واللجوء، بل كانت إرادة جبارة حققت المعجزات، واجترحت العجائب على صعيد تشكيل بنية معنوية وروحية لمن كانت هويتهم في سبيلها إلى التبدد والضياع بسبب قسوة ظروف الحياة.


عندما عدت إلى فلسطين ذهبت إلى المدرسة التي كانت بيتي دائماً، وقابلتها في آخر أطوار مرضها قبل أن تغادر الحياة. ولم أعدم سماع تلك الحبيبة على قلوبنا بشوقها لي وافتقادها لي ولأخواتي، وأمنيتها بأن أنضم إلى من سيسهرون على أن تظل "دار الطفل" في استمراريتها الدائمة.


إلى كل صديقاتي وأخواتي في المدرسة... عهد بأن نظل على خاتم المحبة الذهبي الذي رسمته لنا تلك السيدة المذهلة، التي ظهرت في فيلمٍ أتى به مخرج وفنان عالمي، فرسم شيئاً من صورتها التي كتبتها طالبة من مدرستها.

 

صحيفة  الأيام الفلسطينية - ليانة بدر