الشخصية المصرية والانتخابات

من نحن؟ بناة الأهرامات وأصحاب الحضارة القديمة العظيمة والتاريخ الطويل العاصف والمتقلب. حضرت بالصدفة احتفالاً مليئاً بألعاب النار والموسيقى الغربية وصيحات الناس بهجةً وغبطة وانتشاء لمطاعم تتسع لألفي وخمسمائة أكول ومِشيِّش وشارب للقهوة ولاعق للآيس كريم، و١٦ مطعماً (مجمع مطاعم مصري يدخل موسوعة جينيس بـ٧ آلاف زائر و٥٧٠٠ متر «المصري اليوم» ٢٤ نوفمبر ٢٠١٠). «يجد المصري نفسه محاصراً بكم من الأغنيات والأمثال والأقوال والأشعار تُمجده وتسمو به إلى أعالي الجبال، ونجد المطربات العربيات الجميلات يتسابقن إلى إرضاء غروره ودغدغة حواسه الوطنية بأغنيات ذات رنين أصيل وجميل مثل (أنا المصري) للطيفة، والتي تمتد فيها كلمة المصري بطول الحنجرة وعرضها، تتنامى على أوتار الآلات وفي جوفها، تتضخم وتزداد فخامة مع تقنيات الصوت الرقمية المدهشة، ولا يفوتنا أن نذكر محبوبة الشعوب الناطقة بالعربية (نانسي عجرم) وهي تغنى للمصرى (وكل مصرى الله عليه)، مما دعا أحد الماكرين للتساؤل: وهل أيضاً(كل هندي وكل صيني وكل إنجليزي،... مثلاً .. الله عليه...؟)، أم لأننا بالفعل كما شدت نانسي (ملوك الجدعنة)؟ ربما. إلى الأناشيد القومية التي تدعو المصري (قوم يا مصري مصر دايماً بتناديك) إلى آخر كل تلك الترنيمات والأهازيج التي ترددت في الإذاعات والأبواق ومكبرات الصوت، مما دعا أحد الخبثاء إلى تحوير مقولة مصطفى كامل (لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصرياً ) إلى (لو لم أكن مصريا لحمدت الله على ذلك)، ليس انتقاصاً من قدر مصريته تلك، ولكن إحساساً بعدم جدواها، وأنه لو أصبح أفريقياً أو آسيوياً لربما انتفع بوطنيته تلك، ولرَسَم لها ملامح تنعكس على شخصيته، وتنبثق من بعض ذلك ومن أكثر منه، علامات وإشارات وطقوس ترتمي فى وعاء الشخصية المصرية، تنصهر في بوتقتها، مع فرعونيتها، قبطيتها، عروبتها، إسلامها، إفرنجيتها، عثمانيتها، مماليكها، صعيدها، سواحلها، لتبلور هذا السؤال الملح: لماذا نبحث الآن عن ملامح، أبعاد، مكنونات، أشكال، صور من ماض سحيق إلى ماض قريب، وحاضر مُعاش، إلى مستقبل مرهون بحسابات شتى وقوى تتربص بالأنا المنفوخة تلك للمصري، في ظل تحولات إقليمية شرسة للغاية يزكم أنوفها البارود، ويعمي أعينها الدخان، ترتج أحشاؤها بفعل الانفجارات، تلتمع مع قنابل الليزر والمجازر والتعذيب والاغتيالات؟ نعم لقد أصبحت فلسطين وأصبح العراق في حضننا، وفي ظل تحولات عالمية رهيبة لا تَخفى عنّا مؤامراتها الدقيقة، إلى تحديات اقتصادية بالغة تمتد من الأفراد إلى الموارد الأساسية، ومن الحي والشارع، إلى البحر والجو والبر، من البورصة إلى سوق المال، إلى العالم كله بأسره. هنا تدخل الشخصية المصرية إلى الفُرن، تلين كما يلين الحديد، ثم تسقط فى بئر الثلج لتصبح أقسى من الفولاذ!!! ولنا أن نتساءل أين هى تلك الشخصية؟ ما هى أبعادها؟ ما مدى صحتها، وأين تكمن علّتها؟ هل في خلوها من الأعراض، أم فى إيجابيتها المختبئة، في مناعتها ومقاومتها للسقوط؟ أم في قدرتها على استخدام قدراتها ومُقدّراتها، لكي تنمو وتستثمر في البشر أكثر ما عندها وأغلى ما في قلبها؟! سؤال العصر في ٢٠٠٦ من نحن بالفعل؟ ماذا نفعل؟ ما الذى حلّ بنا؟ كيف ولماذا؟!... رغم كل محاولاتنا للرصد والكشف والتحليل والغوص وسبر الغور، تظل المُبْهمات ويظل الغموض؟! لكن لنا شرف محاولة الاقتراب من هذا الشأن العصيّ على الفهم حتى لو بدا واضحاً كالشمس.... نعيد السؤال بصيغة أخرى: هل هناك بالفعل خصوصية لنفسية الإنسان المصري؟؟ هذا موضوع خاص جداً، خاص بكل المقاييس، لأنه يتناول أدق وأصعب مكونات الإنسـان، نفسه، المرآة التي تعكس كيـمياءه، روحه، انفعالاته، وحياته بشكل عام. نعم هناك خصوصية لنفسية الإنسان المصري؟ ببساطة لأن المصري يتكون من عجين تتمازج فيه مكونات كثيرة متنافرة ومتناغمة متقاربة ومتباينة، تاريخ وحضارة، سياسة وعلاقات داخلية وعربية، طريقة خاصة في التعبير، لغة الجسد، التلويح بالأيدى، طريقة الكلام، الصياح، الصراخ، البكاء، الضحك، إلقاء النكت، النواح، البوح، إمساك الكلام، الوجوم، الحزن الشفيف وذلك الدفين، الألم الذى يعتصر القلب، والذى يشدّ الرقبة والرأس، الإبداع بكل صوره، العنف بكل أشكاله، الطيبة والسماحة، الغلظة والفظاظة، التوتر اليومي الذى كاد أو بالفعل أن يصبح عادة، فقدان الأمن والأمان، التشتت والضياع، الأصول والثوابت، القِيَم والمحبة، التواجد والهجرة، الجنون والمجون، الشروخ التي بانت فى ظهر البلد، والتجاعيد التي ظهرت على وجه الشباب، الفرحة والبهجة، التدني فى الذوق ومحاولة التمسك بالرقي في المعاملة والفن، الفلوس وما جلبته من مصائب ومن غنائم، انعكاسات التغيرات في مظاهر الشوارع والنجوع والقرى، الأطباق الهوائية اللاقطة (الدِشَّات) وهوائيات التليفزيون، ماء الترعة وماء النهر وماء البحر. كل هذا وأكثر -مما لا يتسع له المجال- يشكل القاعدة الرئيسية لخارطة النفس في مصر. بالنسبة للمرض العقلى فلا دليل على أن مصر تخرج عن الإطار العالمي الذى يحددها بــ ١ إلى ٢.٥ فى المائة من عدد السكان. فى الاضطراب النفسي، هناك ظواهر تشير إلى ازدياده أو على الأقل عدم الاستحياء في طلب المعونة والإرشاد والعلاج، مما قد يفسر ظاهرة الازدياد، لكن يكاد الكل يجمع على أن ثمة تغيراً ما، تغيراً ملموساً محسوساً ظاهراً وبايناً للعيان، في العيون.. في الخلجـات، حول العينين وعلى الجبهة، تغير في السلوك الحياتي المعاش يدركه الذى يأتي ويمضي، الذى يقترب ويبتعد. إن النفس المصرية قد تغيرت، ربما ليست الصورة قاتمة وربما إنها أحد إفرازات عصر العولمة في العالم ككل، لكن ولأن مصر والمصريين لهم سمات تسّهل قراءتهم فمن ثم تكون عملية التعرف على خطوطهم المتعرجة وعلاماتهم الإيجابية والسلبية سهلة.
هل بلدنا على الترعة تغسل شعرها؟ هل جاءها اكتئاب يستلزم حبة مبهجة أو صدمة مؤثرة؟ أم أنها (مش ناقصة)؟ أم جاءها نهار لم يستطع دفع مهرها؟ هل الحلم أمرٌ مشروع البوح به؟ هل الرومانسية عيب خطير؟ أم أن النفس المصرية قد أصبحت عجينة ياسمين مخلوطة بزيت كيماوي، سببته مخصبات التربة وحَرّ الصيف الذي فاق الحدود؟.
د. خليل فاضل - المصري اليوم