الشرطة والشعب‏...‏ إلي أين؟

 

بعد أن هدأ غبار المواجهات العنيفة التي صاحبت الأيام الأولي لثورة يناير‏,‏ بدا للبعض صعوبة وضع الضحايا جميعا في سلة واحدة‏,‏ وبدأت اجتهادات التمييز دنيويا بين الشهداء والقتلى‏, وفي ظل تضخيم الإعلام وتركيزه على ما ارتكبه رجال الشرطة من تجاوزات وانتهاكات في ظل النظام السابق, ومحاولة رجال الشرطة نفي تلك التهمة عنهم. ومضي كل طرف بعيدا في الدفاع عما رآه جديرا بتحسين صورته: بدا للمدافعين عن الثورة أن عليهم الإصرار على إسباغ صفة الثائر على كل من فقد حياته أو أصيب خلال أيام الثورة, وأن عليهم كذلك عدم التوقف طويلا أمام الضباط ورجال الشرطة الذين تفحمت أجسامهم في الأقسام أو الذين نالتهم رصاصات من هاجموا السجون.

وفي المقابل راح المدافعون عن صورة الشرطة يبذلون جهدا مضنيا في التنقيب عن سجلات الشهداء والجرحى ليؤكدوا بالوثائق أن غالبيتهم العظمى ــ إن لم يكونوا جميعا ــ من أصحاب السوابق والمسجلين خطر, وغضوا الطرف عن الثوار الذين سقطوا بالرصاص أو فقدوا أبصارهم خلال مواجهتهم للشرطة.

 


لقد سعي الطرفان لإنكار جزء من الحقيقة بدا لهم يقلل من شأنهم, وجدنا أنفسنا حيال صورتين ذهنيتين متناقضتين:

 


الصورة الأولى: رجال الشرطة لم يوجهوا نيرانهم إلا إلى الثوار المسالمين الأبرياء فأسقطوا منهم الشهداء.
الصورة المقابلة: لقد قدم رجال الشرطة الأبطال حياتهم خلال مواجهتهم لجحافل مثيري الشغب من المجرمين والمسجلين خطر.

 


وكلتا الصورتين شأن مختلف الصور الذهنية لا تطابق الواقع حرفيا كما أنها لاتخلو منه تماما, فقد شهدت أيام ثورة يناير سقوط العديد من الضحايا و الجرحى, منهم من تم قتلهم وإصابتهم من الثوار المتظاهرين والمعتصمين, ومنهم من لقي مصرعه خلال مشاركته في الهجوم على السجون وأقسام الشرطة والمؤسسات الحكومية, ومنهم ضباط أصيبوا ولقوا مصرعهم وهم يدافعون عن السجون وأقسام الشرطة والمؤسسات الحكومية ويطلقون النار على المهاجمين. من الضحايا من هاجم بنية السرقة والنهب, ومن تظاهر واعتصم سعيا لتحقيق الكرامة والعدل الاجتماعي. من الضحايا مجاهدون وضباط ومسجلون خطر.

 


إن تصدر هاتين الصورتين الذهنيتين للمشهد تضعنا حيال مواجهة بين من يؤيدون الثورة ومن ثم يحتفون بمن سقطوا من أبنائنا برصاص وهراوات الشرطة, في مقابل من يفتقدون الاحتفاء بأبنائهم ممن قتلتهم الحجارة وقنابل المولوتوف وهم يؤدون واجبهم في الدفاع عن السجون وأقسام الشرطة. ويبدو الأمر كما لو كنا حيال مجموعتين تقاتلتا ومن ثم فدماء كل فريق في رقبة الفريق الآخر.
وكان طبيعيا والأمر كذلك أن يتصاعد الموقف من خلال التركيز الإعلامي علي سلبيات الشرطة, وانصراف الأضواء سريعا عن أي أداء شرطي ملتزم حتي ولو قدم الشرطي حياته في سبيل ذلك, بل وعن أي تضامن شعبي مع الشرطة في مواجهة المجرمين والبلطجية وتجار السلاح, ويتزايد إحساس رجال الشرطة بالمهانة مما يدفعهم إما إلي رد فوري مندفع أو إلي عزوف انتقامي عن أداء واجباتهم أو إلي غير ذلك من آليات التعبير عن الإحساس بالمهانة, وجميعها تؤدي إلي زيادة تدعيم الصورة الذهنية السلبية للشرطة وأيضا إلي تدعيم إحساسهم بالظلم.

 


وفي حقيقة الأمر, فإن كلا الطرفين ــ الجمهور ورجال الشرطة ــ خضعا لسنوات طوال لنظام رسخ بينهما العداء. كان رجال الشرطة يتلقون الإهانات من المشاهير وأصحاب النفوذ عبر سنوات طوال علي مرأي ومسمع من الجمهور: إننا نذكر تلك الصفعة التي تلقاها أحد رجال الشرطة من راقصة كانت مشهورة آنذاك, ونذكر أيضا كيف أن واحدة من الأميرات العربيات أطلقت كلابها وحراسها لتحول دون رجال الشرطة والتدخل للتحقيق في شكوي تتعلق بسوء معاملتها لبعض العاملين لديها من المصريين, وكيف تمت تسوية تلك الأمور بهدوء لايتناسب مع حجم الإهانة, بل إننا جميعا حتي قبيل ثورة يناير كنا نشهد إهانة متكررة يتلقاها في صمت ضابط المرور حين يوقف سيارة مخالفة فيخرج له صاحبها هويته أو يتصل بواحد من معارفه من علية القوم فتؤدي له التحية ويقدم الاعتذار ولاينفذ القانون, ونشهد في نفس الوقت مطاردة رجال الشرطة للباعة الجائلين وتدمير بضائعهم حيث لاسبيل سوي التنفيذ الصارم للقانون.

 


لقد نسي الطرفان أنهما من نسيج واحد, وأنهما كانا علي حد سواء لا يلقيان ما يستحقانه من احترام, وأن ما بينهما من عداء إنما فرضته طيلة عقود طبيعة الدور الذي أسنده نظام الحكم إلي رجال الشرطة وأجهزتها: أن يتقبلوا إهانة الكبار صاغرين, وأن يطبقوا القانون بصرامة قد تصل إلي حد التجاوز علي الفقراء والبسطاء, أن يقوموا بمهمة إحكام القبضة السياسية للنظام بما يتضمنه ذلك من مواجهة للاحتجاجات السياسية وضلوع في تزوير الانتخابات.

 


خلاصة القول

 


إننا لانضيف جديدا إذا ما أكدنا حقيقة أن الحاكم هو المسئول الأول عن إدارة العلاقات بين أبناء الوطن, فإذا ما قام نظام الحكم علي الوقيعة بين هؤلاء الأبناء, وأدار البلاد بحيث وضع الشرطة في مواجهة الشعب, فإن دماء ضحايانا جميعا تقع علي عاتقه, دون أن يعني ذلك بطبيعة الحال تبرئة لفرد أو أفراد أجرموا, كما أنه لايعني إدانة لمن أدي واجبه.

 

 

قدري حنفي - الاهرام