الشرق الأوسط والحروب المؤجلة

نديم الخطيب - الوطن
في الأساطير الإغريقية والرومانية القديمة، كانت الآلهة منغمسة مع البشر في أهوائهم ونزواتهم، وقد يصل الحد بها أن تحارب بعضها بعضاً، أو أن تحارب مع فريق من البشر ضد فريق آخر. وكان للميثولوجيا الإغريقية والرومانية أبلغ الأثر في تشكل الفكر الغربي عامةً، نظراً لطول الفترة التي تأثر بها حتى وقت قريب.
من هنا نستطيع أن نفسر كيف تتصرف دول استعمارية غربية وكأنها آلهة هذا العصر، ولا ضير أن يكون لها كبير آلهة، فأميركا حالياً عند الغرب تقابل زيوس عند الإغريق أو جوبيتير عند الرومان.
كذلك نستطيع أن نفسّر سلوكها الاستعماري حين تطرح مقولة مراوغة (قليل من الضرر يحقق الكثير من المنفعة) وهي كلمة حق يراد بها باطل.
كذلك نستطيع أن نفسّر ادعاءها بأنها تحمل لواء الحرية والعدالة في العالم، ولكن الحقيقة هي عكس ذلك تماماً، على الأقل ما نعرفه من تاريخها الاستعماري الأسود.
فلم تدخل بلداً إلا نهبت ثرواته، وعاثت فساداً في بنيته الاجتماعية، ولم تخرج منه إلا مكرهةً.
إن محاولة دخول الغرب والأتراك وبعض دول الخليج على مسار هذا الربيع العربي يثير الكثير من الريبة، فمن الصعب أن نصدق من لم نرَ منه خيراً يوماً بأنه يريد لنا الخير، وقد تضافرت مصالح تلك الدول مع مصالح قوى محلية لتفريغ هذا الربيع من محتواه.
إنَّ المشهد في كل أرجاء الوطن العربي شديد التعقيد، وشديد الضبابية، وهي مقدمات للفوضى إن لم تعمل الشعوب على تدارك الأمر، ولكنها لن تكون الفوضى الخلاقة التي تحدثت عنها سابقاً وزيرة خارجية أميركا السيدة كونداليزا رايس. وهذا يذكرنا بإحدى خطب قس بن ساعدة الإيادي: (إذا رأيت حرباً جبانها يجرؤ، وشجاعها يجبن، وخسيس المحتد يتحكم فيها بكريم المحتد، ففر منها إلى رابية، وترقب الأحداث.. ترَ أن في الأمر خيانة).
نعم إن بعض ما يجري هنا أو هناك هو محاولة لإجهاض تطلعات الشعوب العربية نحو بناء الدولة المعاصرة والتخلص من الهيمنة الاستعمارية، ولكنَّ شعوبنا واعية وهي قادرة أن تعدّل المسارات الخاطئة، إلا أن التخوف من تدخلات خارجية أو حروب أهلية أو حروب إقليمية تبقى هاجس الجميع، وخصوصاً أن الكثير من المراقبين يتوقعون أن يمتدَّ هذا الربيع ليشمل معظم الدول العربية في السنوات القليلة القادمة.
وسنحاول أن نناقش هذه الهواجس على ضوء المعطيات الراهنة:
فاحتمال تدخل عسكري أجنبي تحت غطاء من مجلس الأمن هو ضئيل جداً، فالتجربة الليبية كانت درساً للجميع، حيث تجاوزت دول الناتو التفويض المعطى لها من مجلس الأمن، والحصيلة هي أن ليبيا أصبحت مرتهَنة لتلك الدول ولأمد طويل. وسيتكرر الفيتو الروسي الصيني في مجلس الأمن إذا تعلق الأمر بأي دولة في الشرق الأوسط بما فيها إيران، نظراً لأهمية الشرق الأوسط استراتيجياً واقتصادياً.
أما احتمال تدخل (عربي عربي) فهذا له مؤشراته، إذ ليس من العبث دعوة الأردن والمغرب للانضمام إلى مجلس التعاون الخليجي، إذ بوسع هاتين الدولتين تأمين نواة لقوة ردع عربية وبتمويل خليجي تكون جاهزةً للتدخل في بعض دول الخليج إن دعت الحاجة، أو قد تُوكل إليها مهمة التدخل في اليمن تحت غطاء المبادرة الخليجية، أو في السودان المرشح لمزيد من التقسيم.
أما بالنسبة لتدخل الناتو دون غطاء من مجلس الأمن، فهو أمر مستبعد كلياً. فهم يدركون أكثر من غيرهم مدى خطورة أي تدخل عسكري في اليمن أو سورية على وجه خاص، لأن ذلك سيولد مقاومة عنيفة لهم، وقد يشعل حروباً إقليمية أو أهلية تجعل المنطقة برمتها في حالة فوضى. فهل اقتصادياتهم المترنحة تتحمل ذلك؟
أما الأتراك فإنهم لا يزالون يعيدون حساباتهم حول تدخل منفرد يقومون به في سورية، فالشهية كبيرة، ولكن المخاطر جسيمة، والأرجح أنهم لن يقوموا بخطوة متهورة تفتح عليهم أبواب جهنم.
وقبل مناقشة احتمال نشوب حرب إقليمية في الشرق الأوسط، لا بد أن نعترض على مقولة يرددها الكثيرون من أن إسرائيل تسيطر على القرار الغربي في كل ما يتعلق بالشرق الأوسط، وعلى الأخص موضوع الصراع العربي الإسرائيلي.
إنَّ ما حدث سابقاً من توافق بين المصالح الغربية والمصلحة الإسرائيلية قد تخطاه الزمن، وخصوصاً بعد انتهاء الحرب الباردة وبروز قوى كبرى صاعدة على المسرح العالمي.
فالغرب صاحب عقلية براغماتية تستطيع أن تدور الزوايا بحيث تنسجم مع مقتضيات الموقف، فهو يقبل أحياناً بجزء من الغنيمة، أو ينكفئ للحد من الخسائر.
وهو في سلوكه هذا لا يأخذ بالحسبان مصير أحد أصدقائه، كما فعل مع نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، أو في أماكن عدة من العالم.
ولن يكون مصير إسرائيل أفضل من ذلك، واللحظة التاريخية التي يكون عليه أن يختار بين إسرائيل وبين مصالحه لن يطول انتظارها، والإسرائيليون يعون هذه الحقيقة، ويدركون أن لا إمكانية لوجودهم في المنطقة دون الغرب.
لذلك لن يكون بوسعهم القيام بأي عمل عسكري منفرد، ومن المرجح أن أميركا لن تعطيهم الضوء الأخضر الذي قد يورطها في حرب لا تريدها الآن، وخصوصاً بعدما أدركت أن القوة العسكرية لن تكسبها المنطقة، فالتجربتان الفاشلتان في أفغانستان والعراق خير دليل على ذلك، وسيمضي وقت قبل أن تفكر بمغامرة عسكرية جديدة، وعلى الأرجح لن يحدث ذلك إلا عندما يصبح وجودها المباشر في المنطقة متعذراً.
وخوفاً من مغامرات عسكرية إسرائيلية قد يصل مداها إلى آبار النفط فإن دولاً كثيرة في العالم تدعم وجود قوة ردع في وجه إسرائيل، وسورية اليوم ركن أساسي لهذه القوة. فدونها ستصبح المنطقة مجالاً حيوياً لكل من إسرائيل وتركيا، ما سيلحق الضرر بكثير من دول العالم ومنها الغرب.
ومن هنا نرى أن الغرب قد يغض النظر عن تنامي قدرات حزب اللـه العسكرية في لبنان، ولكنه يرفض أن يهيمن على الحياة السياسية اللبنانية، كما لا يريد له أن يكون حالة جماهيرية تنتقل عدواها إلى أماكن أخرى. لذلك عمل ويعمل على تشويه سمعته كي يفقده بريقه وشرعيته، وشرطه الدائم هو الابتعاد عن إيران.
فمشكلة الغرب مع إيران ليست القنبلة الذرية فقط وإنما المجال الحيوي، فلو شاءت إيران أن تمتلك القنبلة الذرية، فإنها لن تستطيع أن تستخدمها ضدَّ أحد، ولكنها ستعزز مكانتها الإقليمية ومجالها الحيوي.
إنَّ مواجهة عسكرية كبرى بين الغرب وإيران ستشعل المنطقة، وحتماً ستكون إسرائيل طرفاً في تلك الحرب، إضافة إلى دول خليجية وهو ما سيلحق ضرراً بالغاً بالمصالح الغربية والإيرانية في آن معاً.
ولا بأس، ربما، أن تبقى إيران دولة قوية وسط دول آسيوية كبرى (باكستان – الهند – تركيا). إضافة طبعاً لدولتين عظميين (روسيا – الصين) بحيث تغدو ضرورة في حفظ التوازنات في منطقة بالغة الحساسية، ولكن دون مجال حيوي واسع كالهند مثلاً.
وعندما نصل إلى مناقشة احتمال نشوب حرب أهلية في هذا البلد العربي أو ذاك فإننا نجد أن الأمر بالغ التعقيد، ولكن سنحاول أن نستأنس ببعض المؤشرات.
فالتاريخ يحدثنا أن الشرق الأوسط هو من أقل مناطق العالم التي شهدت حروباً أهلية وخصوصاً في العصر الحديث، باستثناء الحالة اللبنانية، حيث شهد لبنان حروباً أهلية في القرنين الماضيين كان صراع الدول الاستعمارية على المنطقة سبباً رئيساً لها.
ومن المفيد أن نذكر أن التنوع الإثني الكبير الموجود في معظم الدول العربية لم يحل دون الاندماج في بوتقة الدولة الوطنية، كذلك الأمر بالنسبة للتنوع الديني والمذهبي.
إنَّ هذا المزيج من أديان ومذاهب وإثنيات مختلفة استطاع أن يشكل نموذجاً فريداً في العالم للتعايش، وليس من السهولة أن ينـزلق باتجاه آخر مهما حاولت الدول الاستعمارية فعل ذلك.
أما إذا تطرقنا إلى التقسيم الطبقي للمجتمع، فإننا نجد الصورة تكاد تكون واحدة في معظم دول المنطقة، حيث تمتلك طبقة ضئيلة الحجم جداً معظم الثروة، ثم طبقة وسطى هشة تقلص حجمها، أما الشريحة الكبرى من المجتمع فهي الطبقة الفقيرة والطبقة تحت خط الفقر.
وما حدث في الخمسين عاماً الماضية هو انتقال سريع ودون أسس منطقية من أسفل إلى أعلى وأحياناً العكس، على حين تم تهميش الطبقة الوسطى التي تمثل الخزان الفكري للمجتمع.
أما الطبقة الثرية فقد عزلت نفسها عن نسيج المجتمع، ما أدى إلى ضعف العلاقة الجدلية بينهما.
وإذا حاولنا أن نتلمّس الانقسامات الرأسية والأفقية في المجتمع فإننا لن نصل إلى وضوح في الرؤية، فقد تكونت مجموعات هلامية غير واضحة المعالم سرعان ما تظهر أو تختفي، تحكمها انتهازية سياسية مضمونها اقتصادي.
من هنا لا نستطيع أن نميز حالة الغائية ترجح فرضية الحرب الأهلية. أما إذا أردنا أن تكتمل الصورة، فلننظر إلى لبنان الذي يمثل مرآة الشرق الأوسط على حد تعبير كثير من السياسيين، فمن اللافت أن تتجه الأمور إلى التهدئة وسط ما يُسمى الربيع العربي، وما كان يقال من تهويل حول حرب أهلية جديدة قد خفت ضجيجه، بل بالعكس فإن الأمور تتجه إلى مصالحات أو على الأقل هدنة بين هذا الطرف أو ذاك، كأنما توجد قوى دولية وإقليمية لا تريد أن تترك أي احتمال لأن تنفلت الأمور عن السيطرة، وليس خفياً عن أحد مدى تأثر الداخل اللبناني بتلك القوى.
إن قيام حرب أهلية في لبنان، أو حتى فوضى في ظل هذه الظروف من شأنه أن يخلط الأوراق في المنطقة، وسيكون له أثر بالغ السوء في سورية، كما أنه سيفاقم الأمور بين الغرب وإسرائيل من جهة وإيران من جهة أخرى، كما أنه سيؤثر في مسار التسوية للقضية الفلسطينية التي ترعاها أميركا حسب المفهوم الأميركي الإسرائيلي.
ومن مؤشرات هذه التهدئة:
عدم تصعيد سياسي أو قضائي في موضوع المحكمة الدولية الخاصة باغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري.
أما المؤشر الثاني فهو عدم وجود فراغ في السلطة التنفيذية، أي وزارة مستقيلة وحكومة تصريف أعمال.
أما المؤشر الثالث فهو عدم وجود حالة تصعيد بين مكونات المجتمع.
من كلِّ ما تقدم نخلص إلى أنه لا يوجد مؤشر قوي لحدوث حروب أهلية في المنطقة فلا إرادة أو رغبة لدى أحد في حدوث ذلك. فقد عاشت هذه الشعوب في حالة تلاحم عضوي مصيري منذ القدم. والتركيبة المتنوعة تغنيها وتعطيها مزيداً من القوة، كما أن لا مصلحة لأي دولة في العالم ما عدا إسرائيل أن تدفع في هذا الاتجاه، فأي حرب أهلية وخصوصاً في بلاد الشام أو مصر ستكون شرارةً لفوضى عارمة قد تطول مناطق واسعة في العالم، ما سيلحق الضرر بالجميع.
نعم قد تحدث فوضى في هذه الدولة أو تلك وقد يطول زمن حدوثها أو يقصر ولكنها لن تصل إلى فوضى عارمة.
ولن تهدأ المنطقة قبل زوال إسرائيل، وهذا لن يطول انتظاره حسب رأي العديد من المؤرخين والباحثين. وهذه قد تكون الحرب المؤجلة، ولكن حتى ذلك الوقت علينا أن نقوم ببناء دولنا بشكل عصري، وأن نغلِّب لغة التسامح والمحبة فيما بيننا.