الشعب يريد أن يفهم

 

"الشعب يريد إسقاط النظام"، كان الشعار الذي اختزل عناوين حركة الجماهير العربية الثائرة. وعكس بواقعية وعفوية كل ما كابدته تلك الشعوب من ممارسات أنظمتها في جميع الميادين وعلى أكثر من محور ومستوى وجسّد، كذلك، رفض هذه الشعوب للواقع المر والمذل الذي عاشه المواطن في دولته، حين سلبت حريته وديست كرامته الفردية وحين اغتصبت الدولة وأبيحت كرامتها الوطنية.

دول تحولت إلى إيوانات سلطانية لنفوذ حفنة من العائلات الحاكمة ومزارع تدر غلة لا ينعم بها إلا نفر قليل غرق في "المخمل" و "اللحم" و "السحاب".

كرامة الإنسان وكرامة الوطن محركان أساسيان لثورات هذه الشعوب الهادرة. الحرية والعدالة والمساواة موانئ منشودة لأمن وسلامة أساطيل أقلعت. برّها قريب ومراسيها ما زالت تتدلى باحثةً عن قعر آمن يثبتها يقيها لطمات موج عاتٍ. هذه الثورات، كما كل الثورات، لا قوانين معلبة/مؤطرة تحكمها. فتفاعلاتها متداعية وخلاصها بخواتيمها.

مع هذا، فلقد قلت، إن ما كان لن يكون، فليلُ هذه الشعوب كان طويلاً وها هو فجر يبزغ يزيح عتمة ذلك الليل وغمَّه، ويعيد بعضًا من أمل إنساني صافٍ وبعضًا من ثقةٍ تهاوت.أي أنظمة حكم ستولد؟ أي قِيَم ستنشد وتصان؟ أي دساتير ستوضع؟ تبقى هذه الأسئلة وغيرها هي الأهم وهي مكمن الصبح الذي نتمنى طلوعه بعد هذا الفجر القلق!.

نبيل العربي وزير الخارجية المصري الجديد أجاب على بعض من هذه الأسئلة في مقابلة أجرتها معه صحيفة "الشروق". تحدث بوضوح عن أمنيته وأمله أن يكون النظام المصري نظامًا علمانيًا ديمقراطيًا وعن الحاجة لوضع دستور حديث يتماشى مع قيم العصر ومفاهيم ما أنتجته الحالة الإنسانية إزاء حقوق الفرد الأساسية التي يجب أن يصونها الدستور الجديد وتحدث عن مصر حرة كريمة تعود لتأخذ دورها الرائد في المنطقة وأبعد، وتحدث عن تفعيل منظومات حكم من شأنها أن تضمن سلامة قرارات الدولة بشفافية ومسؤولية انعدمتا طيلة عقود في مصر وفي دول أخرى.هي رؤية متقدمة من شأنها أن تعكس مفهوم واحد من قياديي هذه المرحلة الانتقالية التي قادت إليها ثورة ميدان التحرير، وهي رؤية تترجم، بشكل مرحلي ومطمئن، ما معنى "الشعب يريد إسقاط النظام".

وهي رؤية تستوجب تحديد مفاهيم كل فرد أو مجموعة أو حزب أو حركة أبدوا تأييدهم لهذا الشعار. وأقصد، بداية، مواقف أحزابنا وحركاتنا ومؤسساتنا القيادية هنا في إسرائيل. فالاكتفاء والتشبث بدعم الشعار الأساسي العام دون التقدم لما سيفضي إليه هذا على صعيد الممارسة والتنفيذ يؤدي إلى قصور وانكفاء. فحق الشعب هنا أن يفهم أبعد من السطور وحتى من عنوانها المقبول.

من الملاحظ أن جميع الأحزاب والحركات والمؤسسات والنخب أيَّدت ثورات الشعوب بحفاوة وتنافس أدى ببعضهم أن يدعي حق التنبؤ بما يحصل وآخرون بالادعاء بشراكة أبوة على هذه الأجنة الوليدة.

لا أناقش ما كان طبيعيًا وضروريًا، لكننا بدأنا نلحظ بعض التداعيات داخل أحزابنا وحركاتنا السياسية التي تستوجب التوقف عندها. هنالك بلبلة وخلط لكثير من المواضيع والأسئلة والمسائل وتفاعلها كما هو حاصل عندنا بدأ بتأثير تلك الثورات وما أفرزته من شعارات ومفاهيم ومواقف. فبداية أسأل هل من مكان وهل من إسقاطات مباشرة على حالتنا الإسرائيلية؟ فأي نظام نريد أن نسقط؟ وأي شعب عليه إسقاط النظام؟ هل لدى الجميع تتماثل الأجوبة؟ وما هو بديلنا للنظام الذي نريد للشعب أن يسقطه؟. وفي جميع الأحوال بأي آلية وأساليب يجب أن نعمل لنضمن ذلك؟.

ثم ماذا عنى كل فريق وقف مع الشعب ضد نظامه القامع المتجبر؟ أسأل وأعرف ما يعرفه الجميع، فكل الأنظمة الحاكمة في الدول العربية مشابهة لنظام مبارك وزين العابدين والقذافي بفسادها وقمعها. فهل الجميع يوافق على وجوب إسقاط هذه الأنظمة العربية الحاكمة؟ ما موقف هؤلاء الذين أيَّدوا وما زالوا يؤيدون أنظمة ظلامية بواقع وصفها كدول ممانعة ومقاومة؟ لماذا يُصمَت على ما يقترفه نظام الأسد بحق شعبه وهل علينا أن نؤيد شعبه وليسقط النظام؟ وماذا مع أنظمة الأمراء في قطر وجيرانها!

ماذا سيكون موقف من أيَّد "الشعب يريد إسقاط النظام" ً في الحالة الكوبية مثلاً، وماذا سيكون موقف من يؤمن أن كوبا ما زالت تمثل نظامًا مثاليًا يجب الدفاع عنه في وجه شرائك الإمبريالية الأمريكية. إذا انتفض شعب كوبا بوجهه مطالبًا بالحريات والديمقراطية!؟ ماذا سيكون موقف الحركات الإسلامية عندنا من دولة سينص دستورها على أنها علمانية ديمقراطية يسودها القانون الوضعي الذي سيصون حقوق الفرد الأساسية وفي طليعتها مساواة المرأة بالرجل وحق هذه بالعمل والشراكة التامة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وما إلى ذلك.

فئات مختلفة الدوافع والرؤى في الأحزاب وخارجها بدأت تتململ مما هو سائد في هذه الأحزاب. أعتقد أن المواضيع التي تبنتها بعض هذه الفئات هي أقل أهمية وأحيانًا مغلوطة وهامشية، أما الأهم أنها تأثَّرت بروح تلك الثورات وخاصةً بما ادعته من مطالبة بديمقراطية حقيقية في عملية اتخاذ القرارات، التي أصبحت رهينة بأيدي فئات همَّشت الفرد وهمَّشت مصالح المجموع على حساب مصالح فئوية ضيقة. أو بما ألبسته من نزعات وصفت بالمبدئية مقابل الانحراف. هي أصوات، على هامشيتها، تبقى حقيقية يجب أن تسمع وتناقش وتصوَّب باحترام وبتأنٍ. فهكذا صرّفت هذه الفئات شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" حين غاب موقف واضح متميز لما يعنيه كل حزب وفئة ازاء الشعار المذكور في الحالة الإسرائيلية، صرّفته بفئات نقد صغيرة وأخالني أنها احتسبت نفسها الشعبَ في حالتنا وقيادات أحزابنا وحركاتنا ومؤسساتنا كانت النظام الذي أرادت إسقاطه.أعتقد أن الشعب يريد قيادة حقيقية ونظامًا صالحًا يثبِّت مراسينا على برنا الآمن. وللحديث بقية.

 

جواد بولس - القدس