الصباح "العراقية"- انسحاب- الفجر الجديد

 

التوقيت الرسمي للانسحاب الجزئي للقوات الأميركية هو اليوم 31 آب الجاري، إلا أن الانسحاب الفعلي بدأ قبل هذا التوقيت ببضعة أيام، وقد أثار الأمر تساؤلات المراقبين..

لقد بدا الأميركان على عجلة من أمرهم، ما جعل البعض يصف الانسحاب بالهزيمة النكراء أمام قوى العنف المسلح بشتى التسميات والعناوين، متناسين أن هذا الموعد قد تم تحديده منذ العام 2008 وفقاً للاتفاقية الأمنية بين بغداد وواشنطن، وقد يكون استباق الموعد ببضعة أيام له دواعيه الأمنية واللوجستية.

 


وذهب بعض آخر إلى أن إدارة أوباما قررت أن تلقي بثقلها العسكري في أفغانستان بعدما فشلت في العراق، وستترك العراق لأزماته الداخلية وتدخلات القوى الإقليمية، وذهب آخرون إلى أن أوباما يحاول أن يكسب المعركة الانتخابية القادمة بالتراجع عن مشاريع التدخل العسكري التي تلقى معارضة شديدة من لدن الناخب الأميركي ودافعي الضرائب، ولم يعبأ باعتراض معارضيه من حزبه ولا بذرائع المؤسسة العسكرية التي يقف صقورها على الضد من الانسحاب. بعض القوى المحلية ابدت تخوفاً من عملية الانسحاب التي تزامنت مع بعض الخروقات الأمنية واشتداد أزمة تشكيل الحكومة، وألمح البعض إلى الخشية من عودة المجاميع المسلحة. غالبية أطراف الإدارة الأميركية تراهن على استعدادات قوى الأمن العراقية وجاهزيتها، في حين شككت أطراف محلية بذلك، في الوقت الذي أبدت فيه أطراف إقليمية تخوفاً ومحاذير من فراغ أمني ستسعى قوى إقليمية مناوئة لإشغاله، الخارجية الأميركية من جانبها أبدت سعياً لمضاعفة شركات الحماية الخاصة لحماية موظفيها الذين سيضطلعون بمهمات المساعدة في البناء وترسيخ التجربة الديمقراطية وإعادة إنتاج البنى الثقافية والتعليمية والاقتصادية وقضايا التنمية الاقتصادية والبشرية والتأهيل المؤسساتي للدولة، الأمر الذي عده البعض إشارة لبقاء الاحتلال قائماً، ما لم تكن شركات الحماية أسوأ من القوات العسكرية نفسها، إلى جانب أكبر سفارة في العالم تحتوي على(6 آلاف موظف وسبعة آلاف من عناصر الحماية) وقوات تقدر بـ(50 ألف مقاتل) مجهزة بأحدث التجهيزات، هذه العوامل مجتمعة قللت من أهمية الانسحاب، في حين كانت الرسالة الأميركية منصبة على تأكيد المصداقية وتنفيذ الوعود التي قطعتها على نفسها، المتحدث باسم البنتاغون أعلن الشروع بما أسماه(الفجر الجديد) مشيراً إلى أن القوات المتبقية ستكون ذات مهمات تدريبية واستشارية، على أن ذلك لا يعني تخلي القوات عن أهدافها المنصبة على مكافحة الإرهاب، وهذا يعني ضمناً إمكان اشتراك القوات الحالية في عمليات عسكرية. من جانب آخر لقي الأمر تاييداً شعبياً على مستوى الشارع الأميركي، وعد ذلك وفاءً من أوباما بوعوده الانتخابية التي اوصلته إلى البيت البيضاوي.

 
بهجة الانسحاب

بصورة عامة لم تعبأ الأوساط الشعبية، ولم تحتفِ وسائل الإعلام المختلفة بعملية الانسحاب، وأبدت غالبية القوى السياسية التي كانت تطالب علانية بانسحاب الأميركان تخوفات من فراغ أمني قد يسهم بضرب مصالحها الجهوية، في حين شعرت بعض القوى التي تتخذ من الوجود الأميركي ذريعة لممارستها العنف، او عرقلتها للعملية السياسة وزعزعة الأمن تنفيذاً لمخططات خارجية مدفوعة الثمن، بعض القوى الإقليمية ربما بدات تشعر أنها راحت تفقد تدريجياً العوامل التي تساعدها على التدخل في الشأن العراقي لزعزعة التجربة الديمقراطية الناشئة التي من الممكن أن تشكل عامل تأثير في المنطقة وتهديد لهيمنة أنظمة الاستبداد والشمولية. وإذا ما أضفنا العامل الأكثر تأثيراً وهو تأخر تشكيل الحكومة وتزعزع الثقة بالعملية السياسية لدى المواطن العراقي من جراء ذلك، فمن البساطة أن يتساءل المواطن العادي قائلاً: كيف يتركون البلد من دون حكومة؟ في ظل المزيد من التحديات والتهديدات؟ وفي خضم التصعيدات الإرهابية التي بدأت تتسع ساحتها في الآونة الأخيرة؟ لذلك مرت العملية باردة من دون أثر للابتهاج، أو حتى ترسيخ الثقة بمخطط الانسحاب الذي ينتهي بنهاية العام 2011، بل إن صيحات التشكيك والاعتراض أخرست أية محاولة للابتهاج، باليوم الذي يعد تمهيداً لجلاء القوات الأجنبية، ومن ثم استتباب الأمن ونجاح العملية السياسية، وتحقق أهداف عملية التغيير بعد إسقاط أسوأ مثال للاستبداد والدكتاتورية.

 


ما بعد الانسحاب
من السابق لأوانه الحديث عن عراق من دون قوات أميركية، لاسيما في ظل ما يسود المرحلة الراهنة من مؤشرات سلبية، كتأخر تشكيل الحكومة، وبعض الخروقات الأمنية، مستوى جاهزية قواتنا العسكرية والأمنية، وتعطيل مشاريع البناء، ونقص الخدمات، ومعدلات الفساد والبطالة وما إلى ذلك، مما يفقد الثقة بمشروع بناء الدولة وإدارتها بإمكاناتنا الذاتية- الوطنية. الإدارة الأميركية أكدت على لسان الرئيس أوباما، رغبتها الملحة في منح العراقيين فرصة إدارة شؤون بلادهم، وهو ما أكدته أطراف أخرى، سواء من الخارجية أو البنتاغون، على أن الشكوك ما تزال قائمة، إلى جانب المزيد من الاعتراضات من داخل المؤسسة العسكرية وخارجها. لكن الأهم من هذا كله، أمامنا سنة وأربعة أشهر، فهل يمكن أن نعول على متغيرات جذرية تؤهل العملية السياسية لإدارة البلاد؟
التحديات التي يواجهها العراق، لايمكن أن تنجلي بعصا سحرية بين ليلة وضحاها، لكن المؤكد أننا كلما تجاوزنا أزماتنا الداخلية ونجحنا في إنتاج ممهدات تأريخية واعية لبناء الدولة والمجتمع، كلما تمكنا من مواجهة تلك التحديات، بمعنى آخر أننا نحتاج إلى تأسيسات بنيوية لإعادة المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية إلى حضن الدولة، وتطهيرها من الولاءات الجهوية والاختراقات المشبوهة، ومن ثم التفكير جدياً بترسيخ المهنية وتغليبها على المصالح الجهوية، الأمر الآخر يتعلق بتجهيز المؤسسات العسكرية والأمنية وتسليحها بما يناسب حجم التحديات، أي بما يجعل القدرات العسكرية متناسبة مع القدرات العسكرية للمنطقة، لاسيما القدرات الجوية تسليحاً ومراقبة وتقنيات تحديثية، لمواجهة أي تهديد خارجي محتمل، ورفع القدرات الاستخبارية ميدانياً وتقنياً، ومن ثم التأسيس لغطاء مخابراتي كافٍ لمواجهة النشاط المخابراتي المضاد لأجهزة المنطقة، وتأهيل قوى الأمن الداخلي، لاسيما جهازها الاستخباري وتفعيل دورها بصفتها القوة المشروعة الوحيدة التي تمثل الدولة والمسؤولة عن أمن المجتمع. وهذا طبعاً يتوقف على موقف الإدارة الأميركية بالدرجة الأساس، وعلى رؤيتها الاستراتيجية للمستوى الذي ينبغي أن تكون عليه قدراتنا العسكرية والأمنية، وعلى السقف التسليحي والتقني الذي تتيحه للعراق، بوصفه قوة إقليمية مؤثرة في المنطقة. عدا ذلك يتوقف الأمر على مدى جدية الإدارة الأميركية في مساعدة العراقيين على إنضاج التجربة السياسية، وتسوية الملفات العالقة مع دول الجوار، والمساعدة في التنمية الاقتصادية والبشرية، واستثمار واردات البلد وثرواته في النهوض الحضاري، ذلك أن أي تطور في بناء الدولة وأي منجز ميداني واقعي باتجاه استقلال البلد وسيادته واستقراره ونموه سينعكس إيجابياً على الملف الأمني، وستسهم التنمية البشرية في التقليل من مظاهر العنف، وتفويت الفرصة على الجماعات الإرهابية التي تسعى لانتهاز الفرص والهيمنة على مقدرات الدولة والمجتمع.

 

الصباح - د. كريم شغيدل - 1 - 9 - 2010