العرب في انتظار الثورة الالكترونية

 

لابد من الاعتراف بأن كثيراً من مظاهر الحياة المدنية الحديثة التي يتمتع بها عشرات ملايين العرب، ليست من صنع أيديهم، ولا من نسج خيالهم، ولا كانت بفضل ما تمخضت عنه بنات أفكارهم أو نتيجة اعمال عقولهم، والحديث هنا لا يدور عن استخدام تكنولوجيا العصر الحديث من الكهربائيات الى الالكترونيات، ولكن أيضاً عن جملة من القيم والمفاهيم التي لها علاقة بتنظيم حياة البشر والعلاقات المتعددة والمتشعبة بين الناس، وعلى اكثر من مستوى، من العلاقة بين الرجل والمرأة، الى حقوق الانسان، وحقوق الطفل، الى الديمقراطية، والحريات العامة.


وفي الحقيقة، رغم كل ما كنا نقوله عن الاستعمار، ورغم كل الحروب التي خضناها ضده ورغم طبيعته الاستغلالية، الا ان رؤية الامور من جانب واحد ومن زاوية رؤية احادية دائماً، كانت تؤدي الى تحديد موقف ورسم سياسات كانت في مجملها حادة وغير متوازنة، وربما أيضاً انفعالية، لم تحقق الهدف، المتمثل بالتقدم بمجتمعات سبقتها مجتمعات اخرى، ولا بد لها من اجل ان تكون مجتمعات فاعلة، وممنوعة عن ان تكون مستلبة، لابد لها ان تتقدم بسرعة مضاعفة لردم الهوة والفجوة بينها وبين المجتمعات العصرية / الحديثة، نقول رغم كل ما فعلناه ضد الاستعمار الحديث، الا انه لا بد لنا من الاعتراف بانه كان سبباً وبدافع من طبيعته البرجوازية واهدافه في تحقيق الربح والاستغلال ونهب ثروات العالم الثالث، فإنه ساهم في محو أمية مجتمعات العالم الثالث، وتقدم بها درجة ما على طريق دخول الحالة الرأسمالية، حيث كانت تعيش حالة المجتمع الاقطاعي وحتى ما قبل ذلك احياناً.


في الحقبة التالية، التي نعيش الآن، لابد من الاعتراف بفضل العولمة على شعوب عديدة في مقدمتها الشعوب العربية، حيث كان لثورة الاتصالات ولفتح الحدود بين الدول والمجتمعات، فضل في تجاوز المجتمعات العربية حالة التخلف والانغلاق الشديد التي كانت عليها قبل عقد او اكثر قليلاً من الآن، ولعل كل ما قيل عن مرحلة التحرر طوال نصف قرن مضى ما كان الا كلاماً شعارياً جميلاً، لم يحقق تقدماً يذكر، مقارنة بما تفعله حالة الانفتاح بين الشباب العربي والشعوب العربية، حيث حققت ثورة الاتصالات وعياً وحالة اتصال، شكلت حلماً دائماً بالوحدة بين العرب، الذين يكرسون الآن وحدتهم الثقافية، من خلال حوالي 500 محطة فضائية، تقدم انتاجها لكل الجمهور العربي (أكثر من 300 مليون مواطن) وآلاف المنتديات والمواقع الاكترونية، التي اجتاز من خلالها الشباب والمثقفون والمبدعون والمواطنون العرب حدوداً مغلقة، كرسها النظام الجمهوري العربي، الذي كان يفترض فيه ان يكون نظاماً تحررياً.


ليس ذلك وحسب بل ان فشل النظام القطري الذي نجم عن "تحرر" معظم الدول العربية قبل نحو نصف قرن من الآن، في تحقيق مجتمع حديث، ديمقراطي، يعرف فيه المواطن حقوقه وواجباته، وبعد فشل ذلك النظام في اقامة دولة المؤسسات، بات يعوضه الآن التقدم التقني الذي شمل العالم ومن ضمنه عالمنا العربي، فبدل ثورة الاتصالات بات المواطنون العرب يعرفون حقوقهم اكثر، ولم يكن ذلك نتيجة كفاحات القوى الديموقراطية او الشغيلة، او تحالف العمال والفلاحين، بل نتيجة التقدم في حالة الانفتاح والتعايش الانساني في العالم بأسره.


ربما لأجل ذلك نجد ان الدول العربية بشكل عام هي اكثر الدول التي تمارس الرقابة على الشبكة العنكبوتية، لأسباب أمنية بالدرجة الاولى وليس لأسباب اخلاقية كما تحاول ان تبرر تشددها الامني، لدرجة ان بعض الدول العربية تلاحق اصحاب المدونات الخاصة بشكل فظ، كذلك هناك بث الاشاعة ضد شبكة الفيس بوك، وهناك امتعاض عام من كثير من المواقع لدرجة تكبيلها بالقوانين، التي تقيد البث، والقوانين الرقابية المختلفة.

في الحقيقة هناك مشاكل ومخلفات حقب طويلة من الركود والتخلف بحاجة الى حلول، حيث لا يقتصر الأمر عند حدود اغلاق الحدود بين المواطنين العرب، ومنع ازدواج الجنسية، لمواطن عربي، مع انه يسمح له بأن يزاوج بين جنسية بلد عربي وآخر أجنبي، اذا هذا "القانون" العام الذي صاغته الجامعة العربية بحاجة الى تعديل ملزم لكل الانظمة العربية، جوهره ومضمونه اعتبار جنسية اي بلد عربي، كافية للمواطن العربي ليدخل أي بلد عربي دون مطالبته بفيزا دخول مسبقة، او بأية اجراءات للإقامة بالمدة الزمنية التي يريدها، اي لا بد من فتح الحدود بين الدول العربية، على طريقة الاتحاد الاوروبي، كذلك لابد من التفكير جدياً، ليس فقط بدمقرطة الانظمة العربية القائمة، وليس فقط بالعمل على انتشار ظاهرة التعدد السياسي، وتداول سلمي للسلطة التنفيذية، ولا بسيادة القانون، وحماية سلطة القضاء والتشريع وحسب، ولا بحماية الحريات العامة وإباحتها، ولكن ايضاً، تصحيح مفهومنا للديموقراطية الذي في جوهره هو حماية حقوق الاقليات السياسية والعرقية، الطائفية والثقافية، لابد ان يعرف كل طفل عربي ان النسيج الاحتماعي مكون من متعددات اثنية / قومية من عرب وبربر، و كرد، ... ومن متعددات دينية / طائفية : مسلمين، مسيحيين، سنة وشيعة ودروز ... وان البشر مختلفون في المعتقد، حيث هناك مؤمنون، علمانيون، لادينيون ... وان هناك مشاكل تكون بسبب الجيرة. حيث لنا مشاكل لا بد من حلها بطرق واشكال عصرية وسلمية، موضوعاتها: فلسطين، الجزر الثلاث الاماراتية، عربستان، لواء الاسكندرون، سبتة ومليلة، وان هناك مشاكل داخلية، حول الصحراء المغربية، جنوب السودان، مياه النيل، داخل العراق، داخل لبنان، وفلسطين .. وان النظام القائم بكل مكوناته عاجز عن حلها، بل حتى عن وقف تدهور الامور اكثر مما هو قائم، لذا فان "ثورة" عربية الكترونية، ربما تلوح في الافق . قد تضع احلاماً مرت عليها السنون الطويلة موضع التنفيذ والتحقق.

 

رجب أبو سرية

الأيام "الفلسطينية"