الفن أيضا يقتل

دوريان غراي

 

 

 

 

خيري الذهبي - تشرين


 

 


في رواية (دوريان غراي) للايرلندي المقل كتابة والمكثر في صموده أمام تغيرات الأيام (أوسكار وايلد), نرى ما يعلنه نقاد الأدب أنه الصورة الصارخة والنادرة لما يسمى الفن للفن, ونحن أبناء العالم الثالث والقرن العشرين مَنْ عشنا تحت مقولة الفن للحياة, والفن للشعب, والفن للثورة, والفن في خدمة الجماهير إلى آخر ما طرح في السوق من مقولات تريد تملق المارد الذي استفاق من خدر طويل كان فيه تحت طغيان الأنظمة السابقة والتي كانت المملوكية أكثرها صراخاً, فهي لم تتخف تحت اسم ديني أو صراع طبقي الخ.. بل كان حكماً احتكر لنفسه العسكرية والتقدم الاجتماعي والثروة وحوّل الناس جميعاً إلى رعايا,

استيقظ المارد بعد ثورة التعليم المجاني فرأى أي بؤس عاشه آباؤه وأجداده ربما حتى فجر التاريخ في العبودية للأرض ومالكيها, فلا يقوم هذا المارد ولسوء حظ البشرية بالانخراط في حركة التاريخ في نقل مجتمعه من الزراعي الرعوي المتخلف إلى المجتمع المصنع, بل يكون أهم ما يفكر به هو كيف يسقط الطبقة الظالمة السابقة وهذا حق مشروع أعطاه له التاريخ, ولكن الخطأ كان في أنه لم يفعل المأمول منه, بل سعى في جنون كي يحل محل ظالميه السابقين كما رأينا بول بوت في كمبوديا وثوار إفريقيا الاستوائية, بل حتى في الوطن العربي, وفي الصين قبل ومع الثورة الثقافية التي نجت بنفسها منها حين أوقفت رحلة الانتقام الجنونية, والتفتت إلى التصنيع المكثف الذي جعل من الصين الغول الذي يرعب أميركا والذي تقف دول اليورو في أوروبا على بابه متسولة لإنقاذ اليورو بشرائه ديون أوروبا السيادية وسندات الخزينة لتصبح أوروبا مرتهنة أمام الغول الصيني, ولو كانت واحدة من دول العالم الثالث الغارق في الانتقامية, ولكن أوروبا المصنعة والقادرة على تجاوز أزمتها ومأزقها الاقتصادي بفضل مجتمعها المدني المشارك في كل قرارات قيادتها ستنجو. ‏

وأعود إلى رواية (دوريان غراي) فأذكر بعضاً من مقولات بلاي بوي القرن التاسع عشر والذي يقول: ما من فنان يسعى إلى إثبات نظرية ما, فالحقائق ذاتها تثبت ذاتها إن كان الفن حقيقياً, ثم يكمل: التحيز الأخلاقي (وطبعاً السياسي والطبقي) في الكتابة خطأ لا يغتفر. ‏

ورغم أنّ أوسكار وايلد كاتب من العصر الفيكتوري, عصر النفاق الأكبر, عصر التزمت المعلن والفسق المريع المغمر بعيداً عن العيون, فلم يلتزم وايلد بأخلاقيات الامبراطورة فيكتوريا وعصرها, بل عاش وكتب حسب أخلاقه الخاصة, فقدم لنا صورة لإيماناته في روايته هذه دوريان غراي. ‏


ودوريان غراي شاب جميل جمال الصبا, ولكنه كان يعرف أن جمال الصبا لا يدوم فهو زائل زوال كل ما هو ابن للحياة, ويتحدث الكاتب عن حرقة دوريان غراي لمعرفته بأنّ هذا الجمال سيشيخ ويشيب ويذوي وكأنه لم يكن, وهكذا يتقدم منه رسام هو بازيل هولوود الذي ينبهر لجماله فيرجوه السماح له برسمه فيوافق, وتبدأ مشكلة دوريان غراي حين يأخذ الرسمة إلى بيته فتبهره لجمالها ويدمن التعبد أمام جمالها وتصبح الصورة معبداً للجمال له ولأصدقائه المقربين, ولكن الحسد والغيرة يدبان فيه فيبدأ بكراهيتها فهو سيشيخ ويذبل جماله, وهي ستظل الجمال الخالد, فينغمس ويغرق في الملذات الجسدية التي يمكنه منها الشباب, ثم يدخل إلى حيث أخفاها في المستودع فيراها الجمال الراسخ الثابت وفي لحظة يأس يتمنى ويصلي أن تشيخ اللوحة ويظل الشاب, وكأن السماء استجابت لدعائه فقد لاحظ الخط الأول إلى جانب الفم الآثم يتبدى على اللوحة فيهرب ويتركها ويمعن في الانغماس في الحياة اللذيذة, ولكن وجهه الجميل يظل محتفظاً بنقاء وبراءة الشباب, ويكون هذا الوجه الجميل مغرياً لمزيد من الانغماس في اللذات. ‏

وفي إحدى المرات يضل فيدخل إلى المستودع ويرى الصورة وعليها وجه الشيخ الآثم وقد أنهكه السهر والشراب وبصمات الزمان فيفزع ويهرب من صورة الإثم في الإطار ويعود إلى التمتع بالحياة الشابة.يكمل أوسكار وايلد الرواية بعودة أخ لواحدة من ضحاياه اللواتي غرر بهن بشبابه الخارق وخبرة سنه الماكرة, وحين تخلى عنها انتحرت. يعود أخوها من أستراليا ولا هم له إلا الانتقام فيصل إلى بيت دوريان غراي ولا يجده, فيبدأ البحث عنه وحين يدخل إلى المستودع يرى الشاب الجميل في الصورة في ضوء المستودع العتم, فيظنها خصمه فينقض عليه بخنجره وتسقط الرسمة ممزقة ويهرب الفاعل, ولكن المؤسي في الأمر أن دوريان غراي وفي مكان بعيد يسقط مضرجاً بدمه وما إن يقع حتى تهجم عليه سنوات الإثم في وجهه وكفيه وحين يعبر به الناس لا يعرفونه, فالميت ليس إلا شيخاً سكيراً من منحطي الخمارات. ‏

ما ذكرني بهذه الرواية فيلم شاهدته مؤخراً بين نشرات الأخبار المفجعة وكان هذا الفيلم معداً عن رواية دوريان غراي, وبهدوء أخذتْ الأفكار تتسلل إليّ على عادتي, فها نحن وقد جعلنا من الأفكار الجميلة الكبرى صورة جميلة حين كنا جميلين, ولكن خبيثاً فينا صلى إلى الله حتى تتحول الصورة الجميلة إلى حامل للآثام عنا مختف في المستودع بينما نحن ننغمس في آثار الفساد, ولكن حين هجم البوعزيزي على الرسمة الجميلة فيحرقها معه لينكشف أمامنا فجأة عريُنا القبيح وفساد عقود لم نستطع فيها أن نجمَّل وجهنا الحقيقي ليصمد على الزمان فلا تنهكه فسادات الإثم والشيخوخة. ‏