القتل وأرض الحضارات

 

 

خيري الذهبي - تشرين

 

 

 

السؤال الذي يلح على مفكري العالم دائماً هو: هل الحرب والقتل شيء طارئ في تاريخ البشرية, أم إنهما من مكونات الإنسان الأساسي, وهل القتل, وكل الأديان والشرائع والقوانين والمنطق تنهى عنه, هل القتل من الغرائز الأساسية للإنسان أم إنه استجابة لخوف ما, على مصالح ما, على خبز ما, على ماء ما، على موقع استراتيجي ما؟

 

وهل هناك حضارات عدوانية بالأصل, أي قاتلة تبيح القتل رغم أنّ العقل والغريزة تقول: لماذا تقتل ما لا تستطيع أكله كما يفعل الضبع والذئب والكلب الذي لا يقتل إلا إن جاع فيقتل ما يأكله, وأنت تقتل بالمئات وأحياناً بالملايين ولا تأكل ما قتلته أم إنّ مفهوم الأكل قد تطور لدى الإنسان, فلم يعد أكل المقتول مباشرة هو الهدف, بل قتله لأكل خبزه, أو ذهبه, أو مائه, أو ضرائبه إلى آخر المنافع الناتجة عن قتله؟.

 

ويعود السؤال: لماذا لم يُعرف عن الهند وهي أمة نباتية عموماً, لماذا لم يُعرف عنها أنها غزت أحداً, أو أمة خارج حدودها, وتاريخها كان دائماً هو تاريخ الغازين لها, وليس تاريخ غزوها للآخرين, ولماذا كانت الصين تلك الأمة العجيبة وهي أمة ليست نباتية, فالنكتة المعروفة عنها أنهم يأكلون كل ما يمشي على أربع إلا السيارة! هذه الأمة التي ما إن وصلت إلى ذروتها الحضارية حتى أقامت سوراً حول حدودها تمنع الغزاة والبداة والمتوحشين عن بلادها, ورضيت بعزلتها وراء سور الصين العظيم لعدة قرون لم تغز فيها أية أمة أخرى خارج حدودها.
 

البعض يزعم أنّ الحروب قد تشن لأسباب نبيلة كنشر الدين الذي يؤمن به الغازون ولكن أشهر الحروب الدينية في التاريخ مثل حروب الفرنجة التي تسميها اللغات الأوروبية الحروب الصليبية والتي حمّلوها الاسم الديني الصريح, هذه الحرب قام بها أقوام كانوا حديثي الاهتداء إلى الدين المسيحي, وأعني متوحشي سكاندينافيا الذين سمّوا فيها بعد بالنورمان الذين هدّوا وهدموا أوروبا الكاثوليكية قبل أن توجههم أوروبا إلى أرض السمن والعسل – الشام – فاصطدموا أولاً بمسيحيين آخرين – أورثوذكس – في بلغاريا والقسطنطينية البيزنطية فقتلوا فيهم عشرات الآلاف ودمروا القسطنطينية ونهبوا كاتدرائية آيا صوفيا حتى وجههم الامبراطور البيزنطي, أو أعاد دلالتهم إلى أرض السمن والعسل – الشام – وهناك اصطدموا بمهتدين جدد للإسلام وأعني التركمان ليصطدم البداة الشماليون بالبداة الآسيويين على أرض الحضارات التاريخية, وكان مابين سقوط القسطنطينية على يد النورمان وسقوط بغداد على يد المغول خمسون سنة, وكان ضحية هذا الصدام ما بين البداوتين أرض الحضارات التي فقدت مركزيتها وأضاعت مئتي عام في حروب عبثية استفاد منها البدو في تعلم الصناعات والزراعات أو طرق الري الحديثة, والغريب أنّ تاريخ الشرق لا يذكر الكثير عن هذه الحروب المدمرة, فهي مجرد حلقة من سلسلة طويلة من الحروب ابتليت بها أرض الحضارات في دفعها ثمن تحضرها المبكر أمام البدو من الشرق والغرب الجائعين ليس للحم البشري ولكن إلى ماصنعه اللحم البشري قبل قتله.

 


ويعود السؤال: هل كانت الحروب الصليبية حروباً دينية؟ أنا شخصياً أعتقد أن لا.. ويأتي السؤال كتوضيح للسؤال السابق؟ هل كان غزو الإسبان لأميركا الجنوبية وتدميرها لعدد من الامبراطوريات كالأنكا والأزتيك والمايا والتي تفوق بتعقيدها ورقيها اسبانيا وأوروبا, ثم نهبها لذهبها الهائل, وإبادتها للسكان المحليين بالملايين, البعض بالأمراض المتعمدة كالجدري, والبعض بالسلاح الفولاذي والناري اللذين لم يصل إليهما سكان أميركا الأصليون, وإذاً هل كانت حرب إسبانيا في أميركا حرباً دينية؟ والجواب: قطعاً لا, بل كانت حرباً لنهب الذهب والأراضي.

 


ولكن لم لانسميها حرباً دينية, وكانت ترفع شعارات دينية؟ والجواب هو فيما نراه من حولنا, فمعظم الناس ليسوا متدينين, فالمتدينون الحقيقيون في أي شعب لا يتجاوزون نسبة ضئيلة من السكان, أما الباقون فهم أعضاء في عشيرة تحمل اسم ذلك الدين, فهم يدافعون عن العشيرة التي تربط فيما بينهم باسم المعبود بدلاً من رباط الدم, وإذاً..؟

 


ما الحرب إذاً ولماذا؟

 


هناك رأي لدى بعض علماء الاجتماع يقول: إن الحرب ضرورة اجتماعية لسلام المجتمع, ففي كل مجتمع هناك أفراد قتلة بالفطرة, وهؤلاء الأفراد إذا لم توجد الحرب لتصريف طاقتهم العدوانية مشرعنة تحولوا إلى مجتمعاتهم نفسها فصاروا مجرميها والمافيا فيها وقتلة صرحاء لأبرياء من شعبهم, لذلك يعمد المجتمع إلى توجيههم لقتل الآخر الذي يسمونه العدو.

 


وما مباريات كرة القدم والمصارعة الحرة إلا تنفيس عن عنف هؤلاء الناس إذا لم تكن هناك حرب.
وأقول بألم: لماذا لم ترتح أرض الحضارات كما ارتاحت سكاندينافيا بعد تصديرها عنيفيها تحت اسم الفايكنغ وارتاحت مونغوليا بعد تصديرها لكبار قتلة التاريخ.