القدس - الأسير أحمد المغربي...ذلك الصدى الذي يشبه المخيم

منذ عام 2004 يقبع الأسير أحمد المغربي في زنازين العزل ألإنفرادي وفي زنزانة لا حدود زمنية لها، لا شباك يستدعي الهواء محملاً برسائل السحاب، ولا شمس تشرق كي تقول أن دماء الليل جفّت وبدأ يوم جديد، كل شيءٍ بعيد بعيد كالصدى يشبه المخيم كلما فسّر المكان ظلاله وأيقظ الحرّاس على دلالات الحياة.

العزل الانفرادي المشرّع بقانون مصلحة السجون الإسرائيلية منذ عام 1971 وبقانون شاليط الذي أقرّه الكنيست الإسرائيلي عام 2010، أصبح سياسة إعدامٍ بطيءٍ للمئات من الأسرى والأسيرات الذين احتجزوا انفرادياً ولأتفه الأسباب، ومنهجاً انتقامياً ترك آثاراً خطيرة ولا زال على حياة الأسرى صحياً ونفسياً.

الأسير أحمد المغربي ابن مخيم الدهيشة وثمانية عشر أسيراً آخرين يقضون أيامهم ولياليهم في تلك الزنازين الضيقة لا يسمعون فيها أحداً، وحيدون مع الجدران والحشرات واستفزازات السجّانين ورائحة الحمامات المتعفّنة، لا يستطيع الأسير حتى إجراء اتصالٍ بالعين مع زميلٍ له في زنزانةٍ مجاورة، ولا حتى مع السجّان الذي يدسّ الطعام للأسير من فتحةٍ في أسفل الباب الحديدي.

يعيش المغربي في زنزانةٍ لها نافذة صغيرة مشبكة لا تسمح للضوء أو الهواء بالعبور، وقد كتب في رسالة وصلت منه: أنه يضطر إلى الاعتماد على ضوء الكهرباء طوال ساعات الليل والنهار بسبب العتمة الداكنة في تلك الزنزانة.

وكتب يقول: أنه أصبح صديقاً للجرذان والصراصير يتسلّى معهم لمدة 23 ساعة في اليوم، ولا يخرج إلى ساحة النزهة سوى ساعة واحدة مكبّل القدمين واليدين، أسوار السجن تفصل بينه وبين صورته، ممنوع من زيارة عائلته ومن رؤية ابنه الوحيد محمود، يحاول أن يروّض نفسه كي يسمع صوته في تلك العلبة المغلقة.

العزل الانفرادي مشروع قتل للأسير، فهو سجن في داخل سجن، يمتد لسنوات بقرارٍ يتم تجديده من قبل جهاز الأمن الإسرائيلي تحت حجة الدفاع عن أمن إسرائيل، يذهب ضحيته الأسير وهو يذوب رويداً رويد اً بين الحديد والظلام حتى يفقد التمييز بين الألوان، فكل شيء أسود أسود كأن الموت الذي لا يراه الأسير ينصب فخاخه بدهاءٍ في ذلك الخلاء الخالي من الظلال.

حكومة إسرائيل التي تنتهك المواثيق الدولية و كرامة الأسير، قامت بتجديد العزل الانفرادي بنسبة 65% للمعزولين ولمدة تزيد عن العام، ويجدد العزل حسب المزاج الإسرائيلي في انتظار أن يصاب الأسير بالجنون والهلوسة، ويفقد توازنه الإنساني وذاكرته ويتحوّل من إنسان إلى شبح.

أحمد المغربي يحاول أن يلتقط الإشارات من المعنى، وأن يسافر على أحلامه وخياله، يصنع لنفسه صيفاً وشتاء، ويعاكس كل النواميس الطبيعية عندما يقول: ليس النهار هو النهار دائماً وليس الليل هو الليل دائماً، فهناك رائحة أخرى تنهض من الغياب وأغصان أشجارٍ أراها تدخل إلى الزنزانة.

منذ عام 1967 وإسرائيل تمارس سياسة العزل الإنفرادي بحق الأسرى، عزل جماعي وعزل فردي هو الأخطر والأكثر قسوة، وهناك عدد من الأسرى المعزولين لأسباب صحية ونفسية ويزداد وضعهم الصحي سوءاً، فبدلاً من علاجهم أو الإفراج عنهم يتم عزلهم حتى يصلوا إلى خيار الانتحار.

لقد قتل الأسير رائد أبو حماد في عزل سجن بئر السبع، كما قتل من قبله الأسير إبراهيم الراعي في زنازين عزل الرملة، وأصيب الأسير معتز حجازي بأعراض نفسية وعصبية بعد احتجاز زاد عن التسع سنوات، ولم يتعرّف الأسير منصور الشحاتيت على والدته خلال الزيارة بسبب تردي وضعه النفسي. لا أحد يتدخّل ليسمع الرواية لا على المستوى الأممي ولا على المستوى الحقوقي، وتبقى المعادلة رهينة بين قدرة الإرادة الإنسانية على الصمود والنجاة وبين سجّانٍ يتربص كل حينٍ بالحياة.

العزل الانفرادي بشروطه وقوانينه الظالمة يطبّق فقط على الأسرى الفلسطينيين ولا يطبق على السجناء الإسرائيليين، فالسجين الإسرائيلي "يغال عمير" قاتل رئيس الوزراء الإسرائيلي اسحق رابين والمعزول في سجن "أيالون"، يتلقى زيارات عائلية بدون حواجز مرة في الأسبوع ولمدة ساعة، وسمح له التحدث كل يوم لمدة ساعة بواسطة التيليفون، وحظي بزيارة صديقته التي أصبحت زوجته وسمح له بالإنفراد بها لمدة عشر ساعات.

يتمنى المعزولون أن ينادي عليهم أحد بأسمائهم: أحمد سعدات، عاهد أبو غلمة، عبدالله البرغوثي، جمال أبو الهيجا، محمود عيسى، إبراهيم حامد، محمد النتشة، عطوة العمور، مهاوش النعيمات، معتز حجازي، حسن سلامة، هشام شرباتي، رائد صلاح...وغيرهم، ويتمنون أن يتابع أي أحد حياتهم حتى لا يظلوا مربوطين إلى مصائر مجهولة، مشدودين إلى هاويةٍ بعد هاوية.

الأسير أحمد المغربي يرفض أن يعيش بمنزلة الصفر، ولا زال المخيم يعطيه صوت الغائبين ويقرع في قلبه دقات المطر، لا يريد أن يهرب من قصته التي هي قصته، يحفظها روحاً وجسداً، وهذا ما قاله لقاضي المحكمة: ما زال بوسعي أن أمشي وأن أجلس وأن أطير وأن أحلم وأن أمارس كل عاداتي كأنك غير موجود.

القدس - عيسى قراقع - 15 - 8 - 2010