القدس - حكاية جاسوس اسرائيلي بامريكا

ولد جوناثان بولارد في غلفستون، بولاية تكساس الاميركية لعائلة يهودية في ٧/ ٨/ ١٩٥٤.
كان ابوه الدكتور موريس بولارد اخصائياً في علم الاحياء المجهري (ميكروبيولوجي) في جامعة نوتردام بولاية انديانا، اما امه مويلي فكانت متفرغة لتربية ابنائها الثلاثة: هارفي الطبيب المتخصص في ابحاث مرض السرطان، وكارول الأخت الوسطى التي تعمل في ادارة احد المستشفيات، ثم جوناثان.
في طفولته، كان جوناثان بولارد يحلم بزيارة اسرائيل، ولقد تحقق هذا الحلم عام ١٩٧٠، عندما كان في السنة قبل النهائية في المدرسة الثانوية، حيث اعلن في صيف ذلك العام عن اقامة معسكر للطلاب الموهوبين من جميع انحاء العالم في معهد رخوبوت العلمي في اسرائيل، وقد وافق ابواه على اشتراكه في ذلك المعسكر.
خلال وجوده في اسرائيل اشتبك جوناثان في مشاجرات مع الطلبة الآخرين، وقد وصفه هاري ليبكين احد علماء معهد وايزمن بأنه ترك خلفه سمعة بأنه غير متزن ومشاغب، وأنه كان الاسوأ في تاريخ المعسكر الصيفي.
عاد بولارد من اسرائيل وهو يؤمن بأن مصيره مرتبط بها، ولا يريد مغادرتها، ويرغب في الالتحاق بالجيش الاسرائيلي ليصبح يهودياً مقاتلاً.
في جامعة ستانفورد الشهيرة، حيث درس بولارد، لاحظ اساتذة العلاقات الدولية انه ذو خيالات واسعة، ففي احدى المرات زعم انه «كولونيل» في الجيش الاسرائيلي، وفي مرة اخرى قال انه برتبة «كابتن» في ذلك الجيش، وزعم بولاريد انه قتل عربياً خلال نوبة حراسة كان يقوم بها في كيبوتس اسرائيلي، وكانت كل قصصه تدور حول اسرائيل حتى اعتقد البعض ان «الموساد» تدفع رسوم دراسته الجامعية.
بعد تخروجه من جامعة ستانفورد، حصل بولارد عام ١٩٧٩ على وظيفة محلل امني في القوات البحرية دون الاستقصاء بدرجة كافية حول ماضيه المليء بالاكاذيب والخيالات.
كان بولارد قد تقدم بطلب للتوظيف في وكالة المخابرات المركزية (CIA) عام ١٩٧٧ ولكن طلبه رفض. وان مكتب التحقيقات العسكرية في وزارة الدفاع الاميركية (البنتاغون) لم يحصل على معلومات تكشف عن حقيقة بولارد بأنه خيالي وكذاب، وصهيوني متحمس، ويتعاطى المخدرات.
حانت الفرصة ليحقق جوناثان بولارد حلم حياته بأن يصبح جاسوسا لاسرائيل، واتخذ الخطوة الاولى في هذا الاتجاه في شهر ايار (مايو) ١٩٨٤، عندما قدمه رجل الاعمال ستيفن ستيرن في نيويورك الى الكولونيل الطيار الاسرائيلي افييم سيللا، الذي كان يتابع دراسته في جامعة نيويورك للحصول على الدكتوراه في علوم الكمبيوتر.
ومن البدء كان في الأمر تآمر على الولايات المتحدة الاميركية. فقد اخبر بولارد الكولونيل سيللا بأن لديه دليلا على ان الولايات المتحدة الاميركية لا تشرك اسرائيل في كل المعلومات التي يجب ان تشركها بها، وقال انه غاضب من اجل ذلك. وكان أفييم سيللا قد شارك في الغارة الجوية على المفاعل النووي العراقي (اوزيراك عام ١٩٨١).
بعث سيللا بتقرير عن الاتصال الذي تم بينه وبين بولارد الى قيادة القوات الجوية في تل ابيب من خلال التسلسل الوظيفي. ومن هناك تم تحويل التقرير المتعلق بالمحلل الامني الاميركي اليهودي الذي يرغب في مساعدة اسرائيل الى رفائيل ايتان رئيس مؤسسة التجسس التكنولوجي لاكام (LAKAM)،لان الموساد رفضت التعامل مع جوناثان بولارد لان لها علاقات تعاون قوية مع وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية (CIA)، وتتبادل معها كمية كبيرة من المعلومات، لذلك رأت الموساد ان لا تخاطر بتخريب هذه العلاقة. اما لاكام فلم يكن لديها مثل هذه الموانع. فبالرغم من قرار الموساد بالابتعاد عن مسألة بولارد الا ان رافي ايتان رئيس لاكام رأى انه قد يكون من المفيد ان يعرف ما يدور في رأس بولارد. وكانت مهمة لاكام الحصول على الاسرار العلمية في الغرب وذلك لتعزيز قدرات اسرائيل النووية بشكل اساسي. وقد تمكنت لاكام من سرقة تصميمات طائرة الميراج الفرنسية بواسطة مهندس سويسري جندته لهذه المهمة واستخدمت التصميمات في صناعة الطائرة الاسرائيلية النفاثة كفير (Kfir).
اما ايتان فهو من مواليد ١٩٢٦، واشترك في الحرب ضد العرب عام ١٩٤٨.
والتحق بالموساد عام ١٩٥١، وفي العام ١٩٧٢ وصل الى مركز نائب مدير العمليات. وفي شهر شباط (فبراير) ١٩٦٠ كلفه ايسر هاريل رئيس الموساد بالمشاركة في خطف ادولف ايخمان الذي كان يعيش متخفيا في الارجنتين وتم اختطافه في شوارع بيونس ايريس. ولم يحصل ايتان على رئاسة الموساد او الشين بيت من الحكومة الاسرائيلية، لانه كان يعتبر ماهراً في العمليات التنفيذية، ولكنه غير مؤهل لرئاسة اي من الوكالتين. وعندما تولى شارون وزارة الدفاع عين رافي ايتان رئيساً لمؤسسة لاكام.
في الساعة العاشرة والدقيقة العشرين من صباح يوم الخميس ١٩٨٥/١١/٢١ دخلت سيارة يقودها جوناثان بولارد والى يمينه زوجته آن، مجمع البنايات رقم ٣٥٠٠ في شارع انترنشنال درايف في واشنطن. وكان خلف سيارة بولارد سيارة تابعة للسفارة الاسرائيلية تخص الياكيم روبنشتاين الرجل الثاني في السفارة ولم يكن بها غير السائق. ولما فتحت بوابة السفارة الكترونيا لدخول سيارة السفارة سارع بولارد بالدخول بسيارته خلفها قبل اغلاق البوابة وعندما اقترب منه اثنان من حرس السفارة، قال لهما بأنه جاسوس اسرائيلي يعمل مع رافي ايتان. وخلال بضع دقائق كان رجال الـ «ف.بي.آي» يحيطون بالسفارة الاسرائيلية من كل جانب، واستخدموا المناظير المقربة لاستطلاع ما يدور في الداخل. وعندما شاهد ضابط الامن في السفارة ما يحدث دخل الى مبنى السفارة، وعاد بعد عشر دقائق وقال لبولارد الذي تولاه الفزع :
-«يجب ان تغادر».
- «ماذا»؟
- «لقد سمعتني.يجب ان تغادر».
- «هل تعرف من انا؟».
- «يجب ان تخرج من هنا». قالها الضابط بصوت مرتفع.
-«هل تعلم ماذا عملت لاسرائيل؟ انني عميل اسرائيلي؟. واخذ يردد بعض اسماء من تعامل معهم.
-«اخرج من هنا». قالها الضابط ببساطة هذه المرة.
وقد أجهشت آن زوجة بولارد في البكاء وهي تستمع الى الجدل الدائر بين زوجها وضابط أمن السفارة.
-«أريد ان احصل على حقي في الجنسية الاسرائيلية بمقتضى قانون العودة». ثم اردف جوناثان بولارد يقول: «نحن يهود. نحن على أرض اسرائيلية (في السفارة) . لا تستطيع ان تطردنا من هنا».
لم تفلح احتجاجات بولارد، وردد ضابط الامن: «أخرج من هنا».
-ولكنك ترى ما يجري في الخارج. سوف يقبض علينا في الحال. لا تستطيع ان تفعل هذا» وأجهش بولارد في البكاء.
فدفعه ضابط الامن الاسرائيلي الى داخل السيارة وطلب منه المغادرة. وبعد مماحكات غير مجدية غادر بولارد السفارة، حيث القي عليه القبض فورا من قبل رجال اف.بي.اي. واودع سجن مقاطعة كولمبيا.
قبل صدور الحكم على جوناثان بولارد بالسجن مدى الحياة عام ١٩٨٦، قدر حجم الوثائق التي قدمها لاسرائيل بكومة قاعدتها ستة اقدام مربعة وارتفاعها عشرة اقدام. وكشف مساعد النائب العام تشارلز ليبر خلال المحاكمة ان بولارد قد تلقى من قادته الاسرائيليين مبلغ خمسين الف دولار.
كان يوم ١٩٨٥/١/١، من اسعد الايام في حياة جوناثان بولارد. ففي ذلك اليوم انطلقت ثماني طائرات حربية اسرائيلية من طراز ف - ١٦ في رحلة دائرية لمسافة ٤٨٠٠كم عبر البحر المتوسط دون ان يلحظها احد لقصف مراكز منظمة التحرير الفلسطينية في تونس. وقد تمت اعادة تزويد الطائرات بالوقود في الجو في اطول رحلة قطعتها الطائرات الاسرائيلية للقيام بغارة جوية. وقد بلغ عدد ضحايا هذه الغارة ٦٠ شهيداً، ولم يسلم مقر الرئيس ياسر عرفات من الدمار، ولكنه لم يكن متواجداً في المبنى ولم يصب بأذى، وقد قال رئيس الوزراء شمعون بيريس انه «غير متأكد» ان كان لاسرائيل مصلحة خاصة في قتل عرفات، وقال ان حرب اسرائيل ضد (ما أسماه) منظمة ارهابية، وليس شخص هذا القائد او ذاك، ولكن هذا القول المراوغ لا يعكس حقيقة ما قامت به اسرائيل من اغتيالات استهدفت قادة فلسطينيين من كل الاتجاهات السياسية، الوطنية والقومية والماركسية والاسلامية.
وان الغارة الجوية الاسرائيلية على تونس جعلت بولارد يشعر بالغبطة لانه لعب فيها دوراً بارزاً بتحديد الاهداف التي استهدفتها الطائرات الاسرائيلية المغيرة، حيث زود اسرائيل بأكداس من الوثائق التي تحدد مراكز المنظمة في حمام الشط في ضواحي تونس العاصمة. وجمع بولارد معلومات عن الدفاعات الجوية التونسية، وعن قدرات ليبيا العسكرية وقوة راداراتها. وجمع بولارد معلومات عن اساطيل اميركا والاتحاد السوفياتي وفرنسا في البحر المتوسط حتى يتجنب الاسرائيليون مواجهات غير مرغوبة مع هذه الاساطيل.
حاولت بعض الصحف ان تقلل من شأن جوناثان بولارد بوصفه بأنه اخرق تعوزه البراعة، في الوقت الذي كان فيه جاسوساًا بارعاً قدم معلومات مهمة للاسرائيليين. فقد قال المحامي ليون تشارني الذي مثل بولارد لفترة قصيرة وكان قريباً من اسرائيليين على درجة عالية من المسؤولية، قال: «مساعدته كانت بوضوح لا تقدر بثمن لامن دولة اسرائيل».
ظلت اسرائيل تنكر ان عملية بولارد معتمدة من الحكومة الاسرائيلية. ولكن اسرائيل اعتذرت رسميا للولايات المتحدة، وتعاونت مع وفد من الرسميين الاميركيين زار اسرائيل للتحقيق مع الاسرائيليين الذين كانوا متورطين في حلقة بولارد. ولكن مصادر استخباراتية اميركية ظلت شديدة الشك في الانكار الاسرائيلي. ويجادلون في أن الوحدة التي جندت بولارد والمعروفة باسم لاكام (LAKAM )، قد تشكلت قبل سنوات لجمع الاسرار العلمية. وأصرت على أن خبراء الجاسوسية الاسرائيليين يعلمون ان كمية ونوعية الاسرار التي حصلوا عليها لا يمكن ان يحصل عليها الا جاسوس من داخل الاجهزة الاستخبارية الاميركية.
لا احد في اسرائيل يريد ان يتحمل اللوم حول قرار تجنيد يهودي أمريكي كجاسوس على الولايات المتحدة الامريكية.
وان جوناثان بولارد الذي كان يرى في نفسه هبة من السماء نزلت على اسرائيل، صعق عند طرده من بوابة السفارة الاسرائيلية في واشنطن عندما ذهب ليحتمي بها في ظل قانون حق العودة الاسرائيلي، الذي يمنح بموجبه اليهود من كل مكان الجنسية الاسرائيلية تلقائيا.
ولكن مهمة جوناثان بولارد التجسسية، ادت في النهاية الى هز الثقة بيهود اميركا الذين انقلبت فضيحة بولارد وبالا عليهم في المجتمع الاميركي.
وان محاولات اسرائيل لاصدار عفو عن بولارد من رؤساء اميركا بين الحين والاخر، تعمل على تذكير الرأي العام الاميركي بفعلته مما يثير حرج يهود امريكا من جديد.
القدس - محمد جلال عناية