القوة الثالثة

شهدت مصر حراكا سياسيا جديدا منذ منتصف هذا العقد لم يسفر عن تحولات حقيقية في بنية النظام السياسي، ولا يبدو أنه قادر على إنجاز هذه التحولات، رغم دوره المؤكد في تحريك الكثير من المياه الراكدة، ونجاحه في نشر ثقافة احتجاجية داخل المجتمع المصري. والحقيقة أن التفاؤل، الذى شهده قطاع واسع من النخبة المصرية في أعقاب تأسيس حركة كفاية، سرعان ما تراجع بعد اختفاء الحركة، وعاد الأمر وتكرر جزئيا مع الدكتور محمد البرادعي حين تحول التفاؤل الجارف بالرجل إلى تفاؤل حذر، وتحول الأخير إلى شكوك بعد أن دافع عن أفكار بدت بعيدة عن المجتمع المصري، كالعصيان المدنى، الذي لم يكن طريق كثير من المجتمعات نحو التحول الديمقراطي، ثم عقد «توقيعات مشتركة» مع الإخوان المسلمين بصورة أبعدته عن أن يقدم نفسه كبديل توافقي تقبله مؤسسات الدولة كمشروع هدفه إصلاح النظام لا هدمه. والمؤكد أن موقف البرادعي كان فيه كثير من النبل، الذى ربما دفع ثمنه بعد ذلك حين راهن على الجماهير واحترمها، واعتبر أن عليها دعم مشروعه في التغيير والإصلاح، وهو ما لم يحدث بالصورة الكافية، لأسباب لا تتعلق بخنوعها أو استسلامها للوضع القائم، إنما لأن خطاب التغيير وأساليبه لاتزال بعيدة عن المجتمع المصرى. وقد أدى بقاء قوى الاحتجاج الجديد خارج إطار الشرعية القانونية إلى تبنيها كثيراً من الأفكار الحالمة والتصورات المثالية حتى أصبح كثير مما تقوله لا يخرج عن خطاب التمني، فهى تتمنى أن تثور الجماهير، وتتمنى أن يتغير النظام، وتتمنى أن تقضي على التوريث، وتتمنى أن تتوحد المعارضة، أما الواقع، فظل بعيدا عن كل هذه الأمنيات. وانتعش هذا الخطاب في ظل مناخ محفوف ليس فقط بمخاطر أمنية، إنما أيضا بغياب أي قواعد أو قوانين تحكم العملية السياسية، وفرضت على أي ممارس للعمل السياسي ارتكاب أخطاء قد لا تختلف كثيرا عن الأخطاء التي يرتكبها الحزب الحاكم، ناهيك عن أن هذا المناخ الرخو جعل انشغال القوي السياسية بمشاكلها ومؤامراتها الداخلية أكبر من انشغالها بمشكلات الوطن، وجعل اهتمامها بالحضور الإعلامى أكثر من الحضور السياسي الحقيقي. والمؤكد أن الفخ الكبير الذي وقع فيه كثير من القوى السياسية الجديدة، يتمثل فى استسلامها لثقافة وخطاب «القوى الخارجة» عن الشرعية، فهى ترفض الأوضاع القائمة وتغمض عينيها وتعتبرها كأنها غير موجودة، أو تعتبر النظام مجرد عشرة أو مائة شخص وأن تغييره أو إصلاحه سيجري بجرة قلم أو بثورة وهمية لن تأتي، وتتصور أيضا أن الغالبية الساحقة من الناس مع التغيير، في مقابل قلة قليلة من أصحاب السلطة والثروة الفاسدين، وتنسى أو تتناسى أن بقاء أي نظام غير ديمقراطي فترات طويلة في الحكم لا يرجع فقط إلى أنه يمتلك سطوة أمنية، إنما لأن أعداد المستفيدين والمتواطئين معه أكبر من الراغبين في تغييره. ولعل الاعتراف بقوة الطرف المقابل لقوى التغيير، أي النظام، يمثل البداية الصحيحة لفهم معادلات التغيير المقبلة، بعيدا عن الأمنيات الطيبة والخطب الرنانة، صحيح أن هذه القوة بها صراعات داخلية عميقة، وتلعب بمهارة على «توازن الضعف» داخل المجتمع، إلا أنها الطرف الأقوى، الذي انتصر على مدار ثلاثين عاما في كل المعارك، التي خاضها مع المعارضة بكل أشكالها. ولعل اللحظة الحالية التى يمر بها النظام السياسي المصري فيها كثير من التفرد والخصوصية، فلأول مرة يكون النظام على أعتاب انتقال للسلطة، وفي الوقت نفسه لا يعرف الناس اسم رئيس الجمهورية المقبل، صحيح أن جمال مبارك هو المرشح الأكثر تداولا في أروقة الحزب الحاكم، إلا أنه لم يعلن عن ترشحه بشكل رسمي ولم تقبله مؤسسات الدولة السيادية بشكل علني أو مستتر ( ولم ترفضه أيضا)، في حين اعتبرت قوى المعارضة الجديدة أنه غير موجود وتحدثت عن توريث السلطة، والـ ١٠ أو ١٠٠ شخص، الذين يحكمون مصر ويلتفون حول جمال مبارك ونسيت أن التحالف المشتاق للسلطة أو الذي هو جزء منها أو الذي يخافها، سيمثل قوة دعم حقيقية لأى مشروع سياسي مقبل من داخل النظام، سواء كان سيقوده جمال مبارك أو قائد فى الأجهزة السيادية. والحقيقة أنه لمواجهة هذا الوضع، لابد أن تكون نقطة الانطلاق الأولى هي القبول بأن هناك تحالفاً قوياً في السلطة يقوده جمال مبارك ولا يمكن تجاهله، وتظل مشكلة هذا التحالف أنه يعتمد على أجهزة الدولة ولا يمكنه النجاح فى أي انتخابات رئاسية دون مساعدة مؤسسات الدولة وأجهزتها. والسؤال المطروح: هل يمكن أن نفك عرى هذا التحالف بين الدولة ومشروع التوريث، بحيث ينتقل من مشروع توريث إلى مشروع سياسي له توجهاته السياسية اليمينية؟ في الحقيقة يمكن إحداث هذا الفصل عبر «القوة الثالثة»، التي تقع فى منطقة وسط بين قوى التغيير الجديدة، وبين قوى التوريث، وأقصد بها مؤسسات الدولة الرئيسية، وعلى رأسها المؤسسة العسكرية، بجانب مؤسسات مثل وزارة الخارجية والسلطة القضائية، وهنا يمكن لهذه القوة أن تفصل بين الدولة ومشروع التوريث من أجل تحويله إلى مشروع ضمن مشاريع أخرى، عبر فترة انتقالية قد تستمر عاماً. والحقيقة أن أهمية هذا التصور أنه يخرج أولا المؤسسات السيادية من دور وحيد تكرر فى الفترة السابقة حين حرضها البعض على أن تكون بديلاً أو تضع فيتو على مشروع التوريث، وهو أمر لن يضمن، فى حال حدوثه، أن يكون هذا البديل ديمقراطيا حقيقيا، فى حين أن سيناريو «القوة الثالثة» يعني أن هناك من يؤمن بأنه يمكن تحويل الاحتقان الخطر والمتفجر، الذي سيثيره مشروع التوريث إلى نقطة انطلاق نحو التحول الديمقراطي، وهذا لن يتم إلا إذا قامت بعض التيارات السياسية الجديدة بالاعتراف المتبادل بينها وبين قوى النظام، وتقر بأنها راغبة في التنافس الحر والديمقراطي معه، وقادرة، في ظل أى انتخابات حرة تحرسها القوة الثالثة، على هزيمته. إن هذا الأمر، في حال حدوثه، سيفرض على قوى المعارضة الجديدة الدخول فى قواعد الشرعية وحساباتها العاقلة، وتنسى أحلامها الاحتجاجية السابقة، فمصر لا تحتاج فقط متظاهرين يحتجون، إنما تحتاج أساسا عمالاً يعملون في ظروف كريمة وعلماء ومبدعين، ونظاماً تعليمياً وإدارياً وصحياً كفئاً، وقضاء مستقلاً وصحافة حرة، وكل ذلك لن يبنى فقط من خلال ثقافة الاحتجاج.
إذا استطاع تيار من النخبة السياسية المصرية أن يكسر ثنائية البديل التلقائي للوضع الحالى (جمال مبارك أو جنرال) في اتجاه الرهان على قوة ثالثة يقودها «سوار ذهب» (أحد القادة العسكريين السودانيين، الذين قادوا التحول الديمقراطي) مصري، فإننا بذلك نكون قد أنجزنا خطوة جبارة فى سبيل تطور هذا البلد، ولكن الأمر يتطلب وجود بشر مازالوا يتحسرون بجد على وضعنا المتدهور، ويرغبون بجد فى إصلاح هذا البلد.
المصري اليوم - د. عمرو الشوبكي