الكلام الساكت

 

اكتشفت أن مصر الشارع, تختلف تماما عن مصر في أجهزة الإعلام.. فالناس يعيشون حياة لا علاقة لها بما يدور على صفحات الجرائد, أو عبر برامج «التوك شو».. المقاهي تعج بشباب وشيوخ.. عمال وموظفين وطلاب.. الأسواق تتحرك فيها ربات البيوت ونساء عاملات.. كلهم في واد والساسة مع النخبة وأجهزة الإعلام في واد آخر.

جولاتي في الأحياء الشعبية والمدن الصغيرة, اعتبرتها محاولة لقياس المسافة بين مصر التي لا نعرفها ومصر التي يصدع الإعلام رأسنا بها!!.. فحديث الانتخابات البرلمانية بين الناس لا علاقة له بالشفافية أو الدستور أو التوريث.. كلهم يتحدثون عن الفساد ويرونه العدو الأول لحاضرهم ولمستقبلهم.. تدهور مستوى المدارس.. القاذورات التي تحيط بهم من كل جانب.. ارتفاع أسعار السلع الغذائية.. انهيار الخدمات.. ابتعاد المسؤولين في الجهاز التنفيذي والمجالس الشعبية عنهم.. انقطاع المياه والكهرباء.. انعدام الرغبة في العمل.. ورغم كل ذلك تتفجر داخلهم طاقات لا تجد من يستثمرها.. اختصرها أحدهم قائلا لي: «أنتم في أجهزة الإعلام تتحدثون عن شعب غيرنا.. والحكومة تحدثنا عن إنجازات تقدمها لناس لا نعرفهم»!!

حاولت أن أفهم ماذا يريدون؟.. اكتشفت أن أمنيات الناس ليست مستحيلة.. يقدر عليها حزب أقلية بلا إمكانيات, لو أنه نزل إلى الشارع وتحدث مع الناس في شؤونهم.. هم قادرون على مكافحة الغلاء.. لكنهم لا يجدون من يوجههم للطريق الصحيح.. كلهم مستعدون للمشاركة في حملات نظافة.. فقط يبحثون عن مسؤول يملك إرادة مع قليل من الصدق والإخلاص والأمانة.. يؤكدون أن ذهابهم للاعتماد على الدروس الخصوصية والكتاب الخارجي يرجع إلى فقدان كل الأمل في مدارس الحكومة التي تهدر عليها الدولة مليارات الجنيهات سنويا.. تكويهم أسعار الدواء إذا مرضوا, أفضل من الذهاب إلى مستشفيات عامة تحولت إلى باب سري لاستنزاف ثروات الأمة دون أي عطاء.. انصرفوا عن الدولة ومعارضيها.. فقدوا الثقة بالأغلبية والمعارضة.. بل حتى الجماعة المحظورة التي خدعتهم بشعارها الديني.

الشباب يقولون إن كلام التليفزيون والصحف من الساسة والمثقفين, هو «كلام ساكت» لا يصل إلى آذانهم.. وبالتالي لا يؤثر فى عقولهم وعواطفهم.. صدمتهم عنيفة في الذين يتاجرون بمشاكلهم, بعد أن عرفوا أنهم يتقاضون الآلاف شهريا ويعيشون في القصور الفاخرة.. يعتقدون أن أصحاب كل الألوان والأطياف السياسية خدعوهم وتخلوا عنهم.. فماذا نحن فاعلون؟!

هل ستكون انتخابات مجلس الشعب القادمة حلقة جديدة في هذا المسلسل العبثي؟.. أم ستأخذنا إلى طريق جديد.. ظني أن الإعلام– صحفا و«إذاعة وتليفزيون»– يجب أن يعود إلى الشارع وينقل نبضه الحقيقي.. على المتنافسين لنيل ثقة الناخبين الاعتقاد في أنهم سيدمرون الحاضر والمستقبل إذا استمرت ألاعيبهم.. من هنا يجب أن ننزل من أعلى ونكف عن صراخ أهدرنا فيه سنوات بحثا عن سراب.. نحاور الناس ونتفاعل معهم قبل أن نصبح أصحاب «الكلام الساكت».. وهذا تعبير شائع فى السودان تلوكه ألسنة الجماهير في الشارع المصري.. كما لو أننا عجزنا حتى عن توصيف حالتنا, فاضطررنا لاستيراد الوصف الصحيح من الأشقاء فى الجنوب!!

لا الشعارات ولا الوعود يمكن أن تخدع الرأي العام.. لا البلطجة ولا الإرهاب ستكون لهما القدرة على حسم نتائج الانتخابات.. لا الرشاوى ولا الصدقات التي يتم توزيعها على الفقراء في هذا الموسم سيكونان قادرين على فتح باب البرلمان أمام المرشحين.. فقط الصدق مع الناس هو الحل.. لذا لم أندهش أن يرفع الكابتن «طاهر أبوزيد»، المرشح عن دائرة الساحل، هذا الشعار.. فهو يذهب إلى الناس بشعار «الصدق هو الحل».. والمثير أنهم يلتفون حوله ويثقون في أن تلك الكلمات تمثل ملامح شخصيته التى عرفوه بها عبر السنوات الماضية.. ويفعل الأمر نفسه الدكتور «عبدالسلام المحجوب» في الإسكندرية..

 

نصر القفاص

"المصري اليوم"