المحبة لا تعطي إلا...

هيام حموي. البعث
في زمن سابق، كانت المجلات والجرائد تُفرد عدداً من صفحاتها الأخيرة لمن كانوا يُعرَفون بتسمية "هواة المراسلة"، شبان وشابات في مقتبل العمر في معظم الأحيان، يُعربون على الملأ عن رغبتهم في التواصل مع من يقاربونهم بالاهتمامات والهوايات.
آباء وأجداد جيل اليوم "الفيسبوكي" ربما ما زالوا يذكرون هذه الظاهرة، ولعل بعضهم شارك، في مراهقته المبكرة أو المتأخرة، في صيغتها الورقية أو صيغتها الإذاعية المونتيكارلوية "بنك الصداقة"، التي طرحتها تلك الإذاعة الفرنسية الشهيرة آنذاك، والناطقة باللغة العربية، تحت شعار "البنك الذي لا يمكن أن يشهر إفلاسه"، فكانت صلة وصل وواسطة خير ومحبة، بين الشباب العرب من المحيط إلى الخليج، قبل أن تفقد هذه العبارة المكرّسة "عروبياً" ألقها ويتقلّص وهجها لصالح الانكفاء على الخصوصية المحليّة، بحيث أصبح كلٌّ يريد دائرته المباشرة ومحيطه الأقرب "أولاً"...
اللافت في المسألة أن الشباب الراغبين آنذاك في التواصل مع أقرانهم عبر المراسلة لم يكونوا يبحثون عن التميّز أو التفرّد بملامح شخصياتهم وهواياتهم، وإنما كانوا يردّدون الاهتمامات المذكورة في طلبات من سبقوهم، ونادراً ما كان واحدهم يأتي بهواية أخرى غير "المراسلة والمطالعة وجمع الطوابع والعملات"!!!
اليوم وقد انحسر ذلك الزمن، يحلو التساؤل عما حلّ بتلك الهوايات التقليدية لدى أجيال شباب الأمس، فنجد مثلاً أن المراسلة بالورق و"المكاتيب" داخل المغلفات، البيض أو الزرق وحتى الليلكي منها المعطّر أحياناً، والمزدان في أحيان أخرى برسم القلوب والسهام التي تخترقها، والمزخرف بعبارات تشكر ساعي البريد في الزوايا الخارجية للمظروف، هذه المراسلات الورقية باتت في حكم المنقرضة كالديناصورات، وقد تم ذلك بسرعة قياسية لا تتجاوز العقد من الزمان، فحلّت مكانها رسائل الإيميل الالكترونية والرسائل النصية عبر "الموبايلات" والتواصل المباشر عبر الماسنجر والسكايب والفيسبوك، وجميعها انتشرت قبل أن يتحرك أي مجمع لغوي للبحث في تعريبها، وحتى إن فعل فإن سعيه المشكور سيكون بلا جدوى، إذ "سبق السيف العذل" ونذكر، إذا لزم الأمر، بأن العذل هو اللوم ليس إلا...
أما عن هواية المطالعة، فالتحسّر على اضمحلال عدد القرّاء الجادّين المطالعين لا يزال على أشده، على الرغم من كل الترويج الإعلامي الممكن لدورات معارض الكتاب في مختلف العواصم والبلدان، والحالة جديرة بالعديد من الدراسات المتعمقة والباحثة في الأسباب الموجبة والسالبة. وإذا ما تطرقنا إلى هواية جمع الطوابع فمن المرجح أنه لم يعد هنالك سوى بعض الإدارات في الدوائر الرسمية التي تهوى جمع الطوابع المالية كرسوم يحصّلها من تبقّى من محترفي مهنة "العرضحالجية" الآيلة إلى زوال، حكماً وحتماً، حين سيستتب الأمر، وبعد عمر طويل، لدعاة "الأتمتة" وأنصار مراجعة "النافذة الواحدة" في حكومات الكترونية تحتضنها مدن فاضلة نموذجية مثالية، مرشدُها "المصطفى" الذي يعدد الشاعر الفيلسوف، جبران خليل جبران، خصاله النادرة الداعية إلى "المحبة"، في كتابه الأشهر "النبي"، الذي لم تكتشفه نسبة كبيرة من القراء إلا من خلال رائعة فيروز والرحبانيين، "المحبة"... وهذا يُحسب لهذه المدرسة الفنية الرائدة التي جعلتنا ندندن في وعينا وفي لا وعينا بعضاً من المقولات الجبرانية الحكيمة، على سبيل المثال: "... المحبة لا تعطي إلا ذاتها، المحبة لا تأخذ إلا من ذاتها، لا تملك المحبة شيئاً ولا تريد أن يملكها أحد..."
هذا يعيدنا إلى الهواية الأخيرة التي كان هواة المراسلة يتمسكون بها، أي "جمع العملات". يبدو وكأن البعض، وليس فقط من شباب بلادنا، اعتبر هذه الهواية وسيلة لجمع المال، من مختلف العملات، الأخضر منها واليابس، ليس فقط لإشباع الحاجات التي يمكن أن تبلغ قيمتها بضعة مليارات. ولكن هنالك أيضاً الإصرار على الاحتفاظ بالمليارات المتبقية التي تثقل حساباته المصرفية ولا تعدو كونها أرقاماً افتراضية، فهو لا يراها إلا في خياله، إذ لا يستطيع تركها على هيئة قطع ذهبية تلمع أمام عينيه، مثل "البخيل" في مسرحية موليير الشهيرة... إنما عليه أن يكتفي بتخيّل أنها موجودة في كوة سرية بمكان سرّي وتحت رقم سرّي في مصرف سويسري، لكن الكارثة أن يكون لا يزال من هواة المطالعة وقد حفظ قول جبران:
"...المحبة لا تعطي إلا ذاتها، المحبة لا تأخذ إلا من ذاتها".