المصري اليوم - المصريون فى الخارج

 

«الجالية المصرية عملاق لازم يصحى عشان ينقذ البلد... بصّوا الجاليات التانية بتعمل إيه».. بهذه الكلمات علّق مشارك متحمِّس على وضع الجالية المصرية في مؤتمرٍ عقدته الجمعية الوطنية المصرية للتغيير فى لندن مؤخراً.

يندرج هذا المؤتمر فى إطار سلسلةٍ من الفعاليات والاجتماعات العامّة التي تهدف إلى تعزيز الروابط وتنسيق الجهود لدعم الديمقراطية بين الدكتور محمد البرادعى والمغتربين المصريين، فى تحولٍ واضحٍ عن ظاهرة عدم الاهتمام والخوف من السياسة لدى المصريين بالخارج. وكان الحدث الأخير في هذه السلسلة مؤتمراً عقده تحالف المصريين الأمريكيين فى واشنطن بين ١٧ و٢٠ سبتمبر/أيلول، وذلك بعد تنظيم مناسبات أخرى فى نيويورك وبوسطن. وسرعان ما وجدت الجمعية الوطنية للتغيير دعماً قوياً فى أوساط المصريين فى أكثر من عشرة بلدان، بما فى ذلك بعض أكبر الجاليات بمن فيها، وبحسب المنظمة الدولية للهجرة: السعودية (مليون مصري)، والولايات المتحدة «٣٢٠.٠٠٠»، والأردن «٢٣٠.٠٠٠»، وكندا «١١٠،٠٠٠»، وإيطاليا «٩٠.٠٠٠»، والمملكة المتحدة «٣٥.٠٠٠».

لم يكن المغتربون المصريون - الذين يُقدَّر عددهم فيما بين ثلاثة وثمانية ملايين مواطن - عاملاً مؤثِّراً فى السياسة الداخلية المصرية حتى الآن، وذلك خلافاً للأدوار الفاعلة التى تلعبها الجاليات الأخرى كالجالية الأرمنية، والأيرلندية، والكوبية.

ففي فتراتٍ سابقة سيطر الفتور السياسي على سلوك معظم المغتربين المصريين، فأبدى الكثير منهم اهتماماً أكبر بأوضاعهم الاقتصادية وبتحسين ظروف المعيشة. كما كان عامل «الرعب» - أو الرغبة في العودة إلى الديار دون التعرّض لبطش النظام الحاكم - سبباً أساسياً فى الابتعاد عن المطالبة بالإصلاح السياسي.

بالإضافة لذلك كانت مشاعر القومية العربية قوية - خاصةً فى حقبة الستينيات - وهو ما جعل انتقاد الأنظمة الحاكمة من الخارج أمراً معيباً. فـ«لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» ظل شعاراً يَحكم ضمائر وبصائر أجيال، وبالتالي شوشت هذه الشعارات على أسئلة مهمة مثل: «أي معركة؟» و«من هو الأصلح لإدارة المعركة؟» و«من سيحاسبه ويعزله إن فَشلَ وهُزِمَ؟» فحينئذٍ لم يكن هناك فرق بين الدولة والنظام السياسي المستولي عليها.

ولكن الستينيات وشعاراتها قد ولّت، وأصبح المصريون على واقعٍ مغايرٍ يلخصه حصار يفرضه النظام الحاكم في مصر على غزة - المحاصرة أيضاً من قبل إسرائيل - وأزمة مشجعي كرة قدم ساءت إدارتها فتحولت لشبه قطيعة بين مصر والجزائر بغض النظر عن اللغة والدين والهوية والعرق والتاريخ والكفاح المشترك، وجريمة تعذيب على الملأ أدت لمقتل الشاب خالد سعيد. وهذه فقط أمثلة قليلة تلخص حالةً عامةً بلغ فيها الحرمان الاقتصادي والظلم الاجتماعي والقمع السياسي مبلغاً لا يحتمله أغلبية المصريين. وأقنعت تلك الحالة الكثير من المغتربين المصريين بأنّ مصلحة البلاد ومصلحة النظام الحاكم هما مسألتان مختلفتان كلياً.

ثم دخل د. البرادعي والجمعية الوطنية للتغيير معركة المطالبة بالإصلاح السياسي، ومن ضمن جهودهما تعبئة وتحريك المصريين المغتربين، وهم كانوا ولايزالون منقسمين على أسسٍ سياسيةٍ وأيديولوجيةٍ ودينيةٍ وطبقيةٍ..

ولكن المؤتمرات الأخيرة فى الولايات المتحدة والمملكة المتحدة عكست تطوّراً جديداً، فقد تجمّع المصريون للمطالبة بالحرية والديمقراطية ووضع حدٍ للسلطوية، بغض النظر عن الأيديولوجيا والدين والطبقة الاجتماعية.

فعلى سبيل المثال، جمع مؤتمر لندن الإخوان المسلمين مع ناشطين أقباط، وليبراليين مع ناصريين، ورجال أعمال أثرياء وأساتذة جامعيين مع عمال وعاملات بسطاء. وتمثلت اللهجات المصرية المختلفة فى المؤتمر، بما فيها الصعيدية والقاهرية والسكندرية والسيناوية والنوبية. وتكرّرت الظاهرة نفسها فى المؤتمرات التى عُقِدت فى الولايات المتحدة.

وأسباب هذا التطور مهمة، فهوية قادة المطالبة بالتغيير بمثل أهمية الظروف القاسية التى تدفع دعوات التغيير دفعاً، فالمظالم الاجتماعية والسياسية التى تعبر عنها الجاليات المصرية الآن كانت بارزةً منذ أوائل التسعينيات على الأقل، ولكن ظهور ناطقٍ يتمتّع بالنزاهة والثقة، ويتحلّى بالقدرة على التعبير عن تلك المظالم، وعنده الشجاعة الكافية للمطالبة بالإصلاح السياسي قد أحدث فارقاً عند الجاليات المصرية، فالدكتور البرادعي والمغتربون المصريون يفهمون بعضهم البعض جيداً. فمثلاً عندما يتحدّث د. البرادعي عن «الديمقراطية الاشتراكية» لا يخلطها المغتربون المصريون باشتراكية عبدالناصر (التى قد ترتبط في ذهن البعض بالديماجوجية والقمع الديكتاتوري والهزائم العسكرية والفشل الاقتصادي)، بل يفهمها المصريون الذين عاشوا فى المملكة المتحدة وكندا والنمسا والدول الإسكندنافية كما يعنيها د. البرادعى: ديمقراطية تمثيلية، ونظام عدالة اجتماعية، ودولة رعاية (welfare) متطوِّرة.

أما عن ماذا يستطيع المصريون الذين يعيشون فى الخارج أن يفعلوا لدعم الإصلاح السياسي فى مصر.. فيدرك البرادعى وقادة الجمعية الوطنية للتغيير أنّ قوة المصريين المغتربين تكمن في أعدادهم. وكان ذلك وراء مطلب السماح للمصريين فى الخارج بالتصويت فى الانتخابات عن طريق القنصليات والسفارات (كما يفعل العراقيون والجزائريون وغيرهما) - وهو أحد المطالب السبعة للجمعية الوطنية للتغيير، التى تقترب عريضتها الآن من جمع مليون توقيعٍ مؤيدٍ لها. ويجادل نشطاء الجمعية بأنه من غير المقبول حرمان ثمانية ملايين مصري - يساهمون بنحو ثمانية مليارات دولار من إجمالي الناتج المحلي المصري سنوياً - من حق التصويت (وفقاً للبنك الدولى، تحصل مصر على أكبر قدر من التحويلات المالية فى بلدان الشرق الأوسط)، أي أن المصريين المغتربين يساهمون سنوياً بأربعة أضعاف معونة الإدارة الأمريكية، التي - بالطبع - تؤخذ مطالبها بمنتهى الجدية.

ومطلب منح المغتربين حق التصويت مطلب مُلِح للجمعية، ليس فقط لأنّه يعطى فرصة المشاركة للجاليات المصرية ويربطها بهموم الوطن الأم، ولكنه أيضاً قد يؤثر فعلياً على نتائج الانتخابات فى حال تبنّيه. فلا مكان لقوات الأمن المركزى فى شوارع لندن وواشنطن ومونتريال لإغلاق مداخل القنصليات وترهيب الناخبين واعتقال النشطاء والتحرش بالصحفيين الذين يسجلون الانتهاكات. وإذا سُمِح بوجود مراقبة مستقلّة ودولية - وهذا مطلب آخر من المطالب السبعة للجمعية الوطنية - وإذا أُعلِنت النتائج على الفور عقب فرز أصوات خاضعة للمراقبة فى السفارات، فيمكن أن يتقلّص احتمال التزوير على نطاق واسع.

ولكن المصريين فى الخارج لايزالون يواجهون عوائق أمام تأدية هذا الدور، فالنظام الحاكم يتجاهل حتى الآن المطالبة بمنحهم حق التصويت. وفي حين يستطيع المصريون فى البلدان الغربية أن يتكلموا ويتحركوا بحرّية، يواجه المصريون الموجودون فى البلدان العربية آفاقاً أكثرَ قتامةً. خير مثال على ذلك هو ما حدث فى الكويت من ترحيل لأنصار البرادعى فى أبريل الماضى. ورغم أنه من غير المرجَّح أن يتكرّر هذا الحادث المؤلم، فإن الحكومات العربية تملك أدوات كثيرةً لمنع المطالبة بالإصلاح السياسى فى مصر، إن قررت ذلك المنع.

يضاف إلى هذا كلّه واقع ضبابى لايزال المصريون المغتربون فيه بعيدين عن حسم قرارهم بشأن الاستراتيجية التى سيتّبعونها: هل سيدفعون جدّياً نحو الحصول على حق التصويت.. هل سيعملون من أجل التأثير فى السياسات الخارجية التى تنتهجها أوطانهم الجديدة حيال النظام الحاكم فى مصر.. هل سيجمعون المال لدعم قضاياهم؟!.. كما يواجه المصريون فى الخارج تحدّياً آخر يتعلّق بتجاوز خلافاتهم، وإنشاء منظّمات كبيرة وقوية لدعم مطالب الإصلاح السياسى. ورغم هذه التحديات يتجاوب كثير من المصريين المغتربين بحماسٍ مع الرسالة التى يوجّهها إليهم د.البرادعى: «إذا لم تتحرّكوا وتشاركوا الآن.. فلا تشتكوا غداً!»

  

 المصري اليوم - د. عمر عاشور