المصريون بين ضبابية المستقبل وغوغائية التيارات السلفية

 

يمضي المصريون يومهم منذ انطلاق ثورة 25 يناير وحتى اللحظة الراهنة في حوار تحليلي لأخبار تتواصل هنا وهناك في مختلف وسائل الإعلام، تشفي غليلهم حول ما ارتكبه الرئيس السابق وزمرته التي سلبت البلاد الكثير من ثرواتها ومقدراتها، وسط حالة من الضبابية والغوغائية والعشوائية والتخبط في الأفكار بشأن المستقبل، فبعيدا عن جزر النخب المصرية وأفكارها النظرية على اختلافها والتي تعيش عزلة تتفاقم يوما بعد الآخر أو غيابا مقصودا، لا تتوافق آراء المصريين بشأن ما يجري في البلاد أو ما يمكن أن يجري مستقبلا، في ظل اختفاء الأسئلة المتعلقة بالمستقبل، وغوغائية التيارات السلفية وعودتها للسيطرة على المساجد والجوامع وانفراط عقد النخب المستنيرة وانقسامها.

ينسى الكثيرون أن نسبة 40% من المصريين أميين ونفس النسبة أو أقل قليلا تعيش تحت خط الفقر، أضف إلى ذلك شيوع الأمية الثقافية والسياسية والدينية لدى نسبة عظيمة، الأمر الذي يجعل أمر انقيادهم للفوضى والانقسام والانضواء تحت شعارات التيارات الدينية سهلا وبسيطا، وليس أدل على ذلك من تكتلهم وراء هذه الشعارات وأصحابها، وتبنيهم لأقوال الإعلام السابق لنظام مبارك فيما يخص د.محمد البرادعي، وفي ذات الوقت رفضهم لعمرو موسى باعتباره رمزا من رموز النظام السابق، وكيلهم الاتهامات لحمدين الصباحي وأيمن نور بالمتاجرة بأحلامهم رغبة فقط في الاستيلاء على حكم مصر.

تخبط واسع يستطيع المرء التعرف عليه في أي حوار مع مواطن مصري بغض النظر عن أميته أو تعليمه أو موقعه الاجتماعي أو الوظيفي.

الأخطر من ذلك أن التصور المفهوم والمرئي للعيان بشأن الحرية يتمثل في تجاوز وكسر الشرعية والقانون والعرف، يعني أن تجعل من الشوارع الرئيسية والميادين العامة محال لعرض تجارتك أو جراج لسيارتك، أن تقف بسيارتك في عرض الشارع، وأن تعاكس سيدة أو فتاة فإذا اعترضت تقذفها بالألفاظ النابية، أن ترمي بأكياس القمامة من نافذة بيتك أو شباك سيارتك دون تفرقة بين طريق عام وشارع خلفي، أن تمشي عكس السير وتكسر إشارة المرور.

أمس الأول وقفت عربة كارو تبيع "الثوم" في وسط شارع المبتديان بوسط القاهرة، وهو الشارع الذي يضم وزارة ومؤسستين صحفيتين ومستشفى عام ومدارس خاصة وبنوك، أي ليس شارعا خلفيا، والطريف أن البائع أسند ظهر مستمتعا إلى كرسي بالقرب من حمار العربة، ووضع سماعة الموبايل في أذنيه!! إنها الحرية من مفهوم الشارع.

ميدان التحرير نفسه الذي شهد الثورة تنتشر فيه الآن عربات البطاطا والفيشار والعصائر ويفترشه باعة الإكسسوارات النسائية والأعلام وكروت الموبايل وخطوطه، في مشهد لا يمت بصلة إلى مكان يشكل رمزا لسقوط عصر وبداية آخر.

الطريف في الأمر هو مشهد ضباط الشرطة على سبيل المثال في ميدان التحرير، يجلسون تحت ظل شجرة وتندات محلات تجارية يحتسون الشاي والقهوة ويتصفحون الجرائد والمجلات من بائع الجرائد الذي يفترش الرصيف، يقوم على خدمتهم عساكر وأمناء شرطة، في مشهد يتكرر بنفس تفاصيل الصورة والجلسة في كل الميادين والأماكن الأثرية والعامة.

يلاحظ ممدوح فتحي باحث سابق بالمركز القومي للبحوث ويخطب الجمعة بأحد المساجد الصغيرة، أن المواطن المصري يعيش الآن حالة من التخبط سواء كان متعلما أو أميا، فهو يرى ضرورة بل حتمية عدم العودة إلى ما كان سائدا في عصر مبارك وزمرته، وفي نفس الوقت لا يجد أمامه بديلا يحمل أفكارا تحميه وتحمي مستقبله وأولاده، "اعتادوا على "اخطف واجري" دون عمل جاد أو هادف، ولاحظ مثلا أنه ليس هناك مهني سباكة أو ميكانيكي أو نجار أو خياط أو عامل بناء ..إلخ جيد في مهنته، أو موظف عام يقوم بعمله بضمير، هناك فقدان لروح العمل والجدية، وقد اتضح الأمر عندما سقطت دولة حسني مبارك، كل الذين كانوا يتعيشون من الرشاوى والفهلوة والاحتيال والكسب السريع غير المشروع والمبرر يسعون في البلاد فسادا".

 

 

 
   
  الحرية من مفهوم الشارع..  
 

هؤلاء الذين قرروا الترشح لرئاسة مصر لا يعرف الناس عنهم شيئا، هم بالنسبة للناس "وجوه تلفزيونية لا أكثر ولا أقل، لا تعرف عن معاناتهم شيئا، وهنا نتحدث عن الأغلبية الساحقة وليس مجموعات الشباب الواعي".

ويحذر ممدوح فتحي من أصحاب الذقون الطويلة الذين لا يفقهون من أمر الإسلام شيئا ويخربون أفكار الناس "أكثر الناس جهالة تتمثل في هؤلاء الناس، كل واحد فيهم حفظ آيات من القرآن وبضع أحاديث وأطلق لحيته يتخيل نفسه الإمام أبو حنيفة، يفتي ويقمع ويهدد ويتوعد، شيء مرعب وخطير".

ويرد د.حسام عبد الرحيم مدرس مساعد علم الاجتماع أسباب تخبط أفكار المصريين وعدم وضوح الرؤية لديهم إلى الانهيار الإعلامي الذي لم يلتفت أحد إلى سقوطه ضمن سقوط منظومة النظام السابق، وغياب أي رسالة هادفة أو تنويرية له "هناك تخبط خطير في الإعلام المصري، لا يحمل أي رسالة استقراء للمستقبل، لا يقدم رؤية لمشروع أو فكرة وطنية أو قومية، وكل ما يشتغل عليه ليل نهار سيرة وحكايات اللصوص والقتلة والفضائح، وتنصيب آلهة جديدة من الحكام الجدد".

وقد استغلت التيارات الإسلامية السلفية والإخوانية المتشددة الجهل القائم وحالة التشفي والغل وفقدان الثقة التام بكل ما له علاقة بدولة حسني مبارك، وقبضت على المجتمع، فهي تكاد تكون الوحيدة التي تمتلك برامج خدمية فاعلة وذات مصداقية داخل المجتمع، لكن أين دور المستنيرين "المستنيرون يعيشون بعيدا عن الشارع سواء كانوا سياسيين أو مثقفين أو أكاديميين وليس لهم علاقات حميمة داخله من خلال برامج خدمية أو ثقافية أو توعية، يعني منذ قيام الثورة لم نجد برنامجا ثقافيا واحدا خرج إلى الأحياء والقرى والنوادي وغيرها من الأماكن يوضح للناس ما يجري ويتفاعل معهم ويضعهم على الطريق الصواب، وكل ما يقدم يتم داخل قاعات أشبه بقاعات الدرس في المدارس والأكاديميات".

ويشك د.حسام في أن يكون لدى النخب المصرية ذات النفوذ السياسي أفكارا واضحة، وتساءل هل محمد البرادعي أو عمرو موسى أو هشام البسطاويسي أو حمدين الصباحي لديهم أفكارا واضحة بشأن ما يحتاجه المصريون؟ لا أظن؟ "هؤلاء عاشوا ويعيشون في أبراج عاجية، دعك من زياراتهم المرتبة لبعض القرى والأحياء الفقيرة، وخطبهم المزيفة التي لا تلقى صدى، وإذا كانت النخب ومنها الحاكمة والتي تسيطر على الأمور لا تملك أجندة واضحة لما يحتاجه المصريون وما يمكن أن يكون عليه مستقبل مصر، فهل تأمل من المواطنين العاديين أن يملكون ذلك؟ طبعا لا ".

 

 

 
   
  وجوه تلفزيونية لا أكثر ولا أقل  
 

إن تزييفا للوعي المصري مورس عبر أجهزة إعلام النظام السابق بشكل ممنهج على مدار أكثر من ثلاثين عاما، ولا يزال يمارس "لذلك أشك في كون الانتخابات التشريعية والرئاسية القادمة ستحمل نتائج جيدة، وليس بمستبعد أن تعيد اللصوص إلى مجلس الشعب، هل ننسى أن الصعيد والفلاحين سوف ينتخبون تحت وطأة القبلية رجالاتهم، ورجالاتهم هؤلاء هم رجال الحزب الوطني الفاسد الذي حكم مصر ثلاثين عاما".

ورأى الكاتب الروائي والرسام مجدي الشافعي أنه شيء محير فعلا هذا الانكماش الغريب والغير مبرر لليسار و الليبراليين "إنه شيء محير و خيب للآمال أخشى أنهم غير واثقين من أنفسهم، و هذه داهية، فالثقة الوحيدة لمصر أن تحتوى كل الأطياف هي دولة مدنية ديموقراطية".

لكن تظل عدة أسئلة مطروحة و مهمة في رأيه أولا : هل يكتسب الإخوان أصواتا بعد توقف الدعم العاطفي الذي ساندهم طويلا و هم معذبون و ممنوعون، ثانيا السلفيون صوتهم عالي و لكن ليس شرطا أن جمهورهم يبقى على قد صوتهم.

"طبعا أهم حاجة العمل المجتمعي و الاجتماعي، لأن الجهل و التعتيم الذي ساد الصعيد و أقاليم مصر تسبب في صعود الظلام الفكري مما يهدد العملية ككل".

 

ميدل ايست اونلاين