الولايات المتحدة وفن صناعة الأزمات!

بلال الفايز - البعث
بعد المتغيرات الدولية التي عصفت بالعالم نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، وأحداث الحادي عشر من أيلول 2001، وفشل الغزو الأمريكي الصهيوني للعراق وأفغانستان، وهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على المنظمات الدولية، تجذّر مفهوم الإدارة بالأزمات في نهج الإدارات الأمريكية والذي لم يكن جديداً، لدرجة أنه أصبح جزءاً من استراتيجيتها الخارجية تجاه دول العالم الثالث، لذلك تتبع الإدارات الأمريكية المتعاقبة ديمقراطية كانت أم جمهورية (ومن خلفها اللوبي الصهيوني) ودول أوروبا الغربية أسلوباً براغماتياً وميكافيلياً للهيمنة على العالم يتمثل في صناعة الأزمات عن طريق بروباغاندا تعتمد على تخويف الأمريكيين والأوروبيين عبر وسائل الإعلام المختلفة.
توهم الرأي العام بوجود أعداء محتملين وقوى (شريرة) تستهدف الغرب وحضارته، والمتاجرة بشعارات حقوق الإنسان والديمقراطية، وذلك لتسويغ حروبها العدوانية وسياستها المتهورة الضريرة والمتغطرسة، ولتهيئة الرأي العام العالمي وخاصة الأمريكي والأوروبي لتأييد وتبرير المغامرات العسكرية التي لن تنجح في جلب الأمن والاستقرار إلى العالم، ولا تعزز دور الولايات المتحدة وهيبتها، ولن تحافظ على مصالحها. وقد برعت الإدارات الأمريكية المتعاقبة في صناعة الأزمات حيث شهد العالم انقلاباً أمنياً وفوضى وحروباً وأزمات لم يشهد لها مثيلاً من قبل، لدرجة أن العالم بنظر هذه الإدارات أصبح مجرد رقعة شطرنج ومنطقة مصالح حيوية لها، في وقت مازالت تسيطر على النخبة الحاكمة في واشنطن استراتيجية رسمها المحافظون الجدد رغم خروجهم نظرياً من دائرة القرار بعدما ثبت فشل سياساتهم التي عاثت -خاصة في عهد إدارة بوش الأب والابن- في العالم فساداً وحروباً وأزمات وتدخلاً في الشؤون الداخلية لمعظم دول العالم بذرائع (مكافحة الإرهاب-الحرب ضد الطغيان-نشر الديمقراطية-الحفاظ على حقوق الإنسان-منع انتشار أسلحة الدمار الشامل-تطبق القرارات الدولية والتي يضاف إليها اليوم حماية المدنيين)..!
نسأل من صنع تنظيم القاعدة في أفغانستان، ومن حث صدام حسين على غزو الكويت ومن اختلق أحداث 11 أيلول 2001، ومن يقف وراء القرصنة في الصومال ومن يدعم ولا يزال الأنظمة الديكتاتورية في أمريكا اللاتينية وأفريقيا ومن يقف وراء ما حدث في جورجيا وأوكرانيا وقرقيزيا والتيبت وهندوراس وكولومبيا، والتوتر بين الكوريتين، ومن يدعم الحركات الانفصالية في السودان، ومن يحرض على الطائفية والمذهبية والقبلية والإثنية في البلدان العربية؟ ومن هو صاحب المصلحة في تسريب معلومات عن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، ومن هو صاحب المصلحة في تشكيل هذه المحكمة أساساً؟ ومن يدعم الكيان الإرهابي الصهيوني في عدوانه على الأمة العربية؟! ومن يقف وراء ما يحدث في باكستان وأفغانستان ومن شجع إثيوبيا على احتلال الصومال؟ ومن يقف وراء الأحداث الحالية في تونس ومصر وليبيا وسورية.. وما يسمونه بـ (الربيع العربي) ومن قتل أكثر من مليون عراقي و120 ألف ليبي؟! ومن المسؤول حتى عن انتشار الأوبئة ومشكلات الاحتباس الحراري وتلوث البيئة..إلخ. إنها بكل بساطة الإدارات الأمريكية المتعاقبة ومن يدور في فلكها، هذه ليست مبالغة بل هي حقيقة الواقع الدولي المضطرب والذي تسوده شريعة الغاب، والمفارقة العجيبة أنهم يسألون أنفسهم لماذا يكرهوننا؟ إن صناعة الأزمات هي صناعة أمريكية صهيونية غربية بامتياز تعود إلى فترات قديمة، لدرجة أنه لا تكاد تخلو دولة في العالم أجمع من أزمة تستنزف عناصر القوة فيها.
فبعد تدمير العراق وليبيا تسعى الإدارة الأمريكية إلى تكرار هذا السيناريو في دول عربية عديدة متذرعة بمساعدة شعوب هذه الدول! لتنفيذ مشروعها (الشرق الأوسط الكبير) الذي يرمي إلى تفتيت دول الشرق الأوسط إلى دويلات هشة ومتناقضة على أسس مذهبية وطائفية وعشائرية وقبلية وعرقية لحماية إسرائيل والسيطرة على مصادر الطاقة وللتحكم بالعالم أجمع ومعالجة أزمتها الاقتصادية العميقة وللضغط على القوى الصاعدة التي تنافس الولايات المتحدة على زعامة العالم كالصين وروسيا واليابان والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا..! ولهذا كله أجرت الولايات المتحدة الأمريكية في أيلول عام 2008 مراجعة عميقة لاستراتيجية الأمن القومي الأمريكي بما يخدم المصالح الاستراتيجية الأمريكية مستقبلاً والتي تضررت كثيراً وخاصة في عهد إدارة بوش الابن عندما اعتمدت استراتيجية القوة العسكرية (الخشنة) بعد أحداث أيلول عام 2001م لتحقيق الأهداف الأمريكية في المنطقة العربية، وبعد تعثر هذه الاستراتيجية ومشروعها الامبراطوري (الشرق الأوسط الكبير أو الواسع) لجأت الإدارة الأمريكية في عهد أوباما إلى استراتيجية جديدة تعتمد على مزج القوة الذكية أو الناعمة (الفوضى الخلاقة) -للتقليل من الخسائر الاقتصادية والبشرية- والتي ساهم في بلورة مفهومها كل من (جوزيف ماي، وبريجنسكي، وريتشارد أرميتاج.. وغيرهم) ممثلة /بالدبلوماسية ووسائل الإعلام ومنتجات الثورة الرقمية والجاسوسية والدعاية وخاصة الانترنت والمحطات الفضائية والاعتماد على الطابور الخامس في الدول المستهدفة وتوزيع الأدوار وإثارة الفتن../ والثورة الصلبة والمتمثلة بالقوة العسكرية، وهذا يتضمن إدارة الأزمات في العالم وليس حلها حتى لو أدى ذلك إلى تكاثر النقاط الساخنة وانتشار أقواس الأزمات، لأن المطلوب استمرار كل هذه الأزمات دون حل. وفي ضوء هذا يمكن فهم ازدياد المواقع المشتعلة على امتداد الوطن العربي من مغربه إلى مشرقه لتمزيقه إلى دويلات متناقضة وضعيفة على أسس مذهبية وعرقية وطائفية وقبلية، وفي هذا الصدد قالت صحيفة هآرتس الإسرائيلية في عددها الصادر في 25/2/2011 إن (الثورات) التي تشهدها المنطقة العربية ستؤدي إلى إعادة تصميم المنطقة من جديد وتشطب صيغة «سايكس بيكو» التي قسمت هذه المنطقة منذ عقود (1916). وأضاف كاتب المقال (ألوف بن) إن الخطة الموضوعة ستظهر في السنوات القريبة القادمة أعلام دول مستقلة جديدة أو متجددة، ويشير (بن) إلى أن ذلك سيكون الأساس في كل ما يرتب له في الوطن العربي مبدأ ما يسمى تقرير المصير للقبائل والعشائر والإثنيات؟!
ونتيجة استخدام الولايات المتحدة الأمريكية استراتيجية القوة الناعمة هذه عن طريق العمليات الاستخباراتية السرية وتجنيد العملاء والمنشقين ودعمهم وإثارة الفتن الطائفية والمذهبية والإثنية والتدويل وصناعة (المجالس الانتقالية) الانتقامية؟! الذي أصبح نهجاً أمريكياً جديداً لتبرير تدخلها في الشؤون الداخلية للدول ولإضفاء طابع من الشرعية المزعومة على هذه التدخلات، بدأت عشرات الدول ومعظم الشعوب في العالم تتذمر علانية من هذه السياسات الأمريكية المتغطرسة والضريرة التي لن يكتب لها النجاح.
أخيراً نقول: لن تبقى الولايات المتحدة الأمريكية هي القطب الوحيد في هذا العالم إلى الأبد كما علمنا التاريخ وعلّمتنا تجارب الشعوب، فها هي ملامح الضعف والانهيار باتت تظهر بشكل فاضح على جسد الإمبراطورية الأمريكية المنهك داخلياً وخارجياً (الأزمة الاقتصادية-استفحال الانحلال الأخلاقي-تكاليف الحروب الباهظة- انتشار الجريمة-الانقسام الاجتماعي- بروز النعرات العنصرية- ازدياد كراهية معظم شعوب العالم للسياسة الأمريكية لحماية إسرائيل..إلخ) حيث يتوقع علماء العلاقات الدولية والباحثين في القضايا الاستراتيجية قرب انتهاء الهيمنة الأمريكية على العالم وبداية بروز عالم جديد على الأرجح سيكون عالماً متعدد الأقطاب من المؤكد أنه سيكون أفضل وأرحم وأكثر توازناً.