انحراف ألماني نحو العنصرية

 

 تشهد المانيا حالة من الجدل المتصاعد حول قضية الهجرة، وكيفية التعاطي مع خمسة ملايين من المسلمين معظمهم من الاتراك، يعيشون فوق ترابها وتحمل نسبة كبيرة منهم الجنسية الالمانية، سواء بسبب المولد او التجنس.
السيدة انجيلا ميركل التي تواجه حكومة يمين الوسط التي تتزعمها تراجعا كبيرا في شعبيتها، فاجأت الاوروبيين قبل الالمان قبل ايام معدودة بالاعتراف بفشل سياسة التعددية الثقافية التي اتبعتها معظم الحكومات الالمانية السابقة، وطالبت المهاجرين المقيمين على الارض الالمانية بتعلم اللغة الالمانية، والاندماج في المجتمع الالماني.
الحكومات الاوروبية، والالمانية خاصة، شجعت التعددية الثقافية من منطلق الحرص على احتفاظ المهاجرين بثقافتهم الاصلية، وتمييزهم عن المجتمع الالماني، مقابل الولاء للبلد الذي يعيشون فيه ويحملون جنسيته. ولكن الآن هناك من يرى خطأ هذه المقايضة، ويعتقد ان التعددية الثقافية جاءت بنتائج عكسية، حيث ابقت ولاء المهاجرين للدول التي جاءوا منها، والمسلمون منهم على وجه الخصوص.
التعددية الثقافية التي لم تأت تطبيقا لليبرالية او احتراما لحقوق الانسان، وانما لعزل الآخر، والحفاظ على الثقافة الام الغالبة، بدأت تحول المهاجرين الى اغراب، او جزر معزولة ثقافيا واجتماعيا داخل البلدان الجديدة التي هاجروا اليها كعمال غير مهرة في اغلبهم، تلبية لحاجة الاقتصاد الالماني المرتكز على الصناعة اساسا، وهو اقتصاد يتطلب عمالا غير مهرة لتعويض ملايين الالمان القتلى في الحرب العالمية الثانية.
الظروف تتغير في المانيا، ومعظم الدول الاوروبية الاخرى ايضا، حيث تتصاعد حظوظ الاحزاب اليمينية المتطرفة في الحياة السياسية، مثلما تتسع شعبيتها في اوساط الناخبين، وساهمت ظاهرة 'الاسلاموفوبيا' التي تغذيها هذه الاحزاب واجهزة الاعلام المرتبطة بها، في تعزيز التطرف اليميني وزيادة العداء للمسلمين المهاجرين او المجنسين او الاثنين معا.
تعلم المهاجرين للغة الام امر حتمي، وانفتاحهم على ثقافة البلد الجديد الذي يعيشون فيه الطريق الاسرع لاندماجهم في المجتمع، ولكن ما يمكن خشيته ان يكون هذا الحديث عن فشل التعددية الثقافية، والعودة مجددا للحديث عن الاندماج مجرد بداية الانحراف نحو التوجهات العنصرية التي من المفترض ان تكون قد دفنت بعد الحرب العالمية الثانية، ونتيجة لاخطارها، اي التوجهات العنصرية.
السيدة ميركل عندما تؤكد على الثقافة الالمانية على انها الثقافة الغالبة، او التي يجب ان تكون غالبة ينضوي تحت مظلتها الجميع، انما هي تنفي الآخر، وتطالبه بخلع ثقافته او بالاحرى هويته الثقافية كليا اذا اراد البقاء او الاندماج، والا فان عليه الرحيل.
الحديث عن الثقافة الغالبة، وبعد سبعين عاما تقريبا على الهولوكوست، وهزيمة النازية العنصرية يتزامن مع بزوغ نجم القومية الالمانية مجددا، وتزايد الاحاديث عن صعوبة، بل استحالة اندماج المسلمين من الاتراك والعرب في المجتمع الالماني، وتأكيد استطلاعات الرأي على ان 58 في المئة من الالمان يؤيدون تقييد ممارسة الاسلام وثقافته في المانيا، بينما يرى 55 في المئة انهم يتفهمون لماذا يكون العرب غير مرغوبين بالنسبة الى البعض.
لا نعرف ما هي الدوافع الرئيسية لحديث السيدة ميركل عن فشل التعددية الثقافية وضرورة هيمنة الثقافة الالمانية الآرية في بلادها. فهناك من يقول ان ذلك يتم من اجل وقف التدهور في شعبية ائتلافها الحاكم لحساب اليمين المتطرف واحزابه، وقد يكون هذا هو الهدف المعلن، ولكن من غير المستبعد ان تكون السيدة ميركل نفسها لا تكن الكثير من الحب للاقليات غير الالمانية والاسلامية منها على وجه الخصوص، وما يثبت ذلك امران، الاول عداؤها الصريح والمعلن لانضمام تركيا الى الاتحاد الاوروبي بسبب ثقافتها ومعتقدات شعبها الاسلامية، والثاني تكريمها لرسام الكاريكاتير الدنماركي صاحب الرسوم المسيئة للرسول (ص) وللعقيدة الاسلامية بشكل عام كعقيدة ارهابية.
الديمقراطية التي تعتبر من اسس الحضارة الغربية تحترم التعددية الثقافية التي هي حق اساسي من حقوق الانسان، ومحاولة نفي هذه التعددية وفرض ثقافة واحدة وبطرق طابعها اقرب الى الديكتاتورية، تشكل انحرافا خطيرا على الديمقراطية الغربية وليبرالية مجتمعاتها، ويعكس حنينا الى الافكار والتوجهات التي اغرقت اوروبا في حروب طابعها عنصري بالدرجة الاولى، وهي حروب معروفة نتائجها عموما.

 

القدس العربي