بعد الأفراد.. فلكيّون يتنبؤون بمصير الأوطان

التنجيم وقراءة المستقبل.. ملاذٌ مفترض تعزِّزه الأزمات وحاجة الناس إلى الأمان..
أعمال عنف هنا، وتقلبات واضطرابات في أسواق المال هناك.. ارتفاع في أسعار السلع في العالم، وانتفاضات شعبية لاسيما في العالم العربي.. كلها أحداث أرجعها بعض من علماء الفلك إلى الانبعاثات التي قذفت بها الشمس, والتي تسبَّبت في تغيير أمزجة البشر، ودفعتهم إلى سلوك سلبي.
واللافت أنَّ التقارير تمَّ بثها من خلال أهم المواقع والمحطات التلفزيونية العالمية؛ ما دفع بعض علماء الفلك والخبراء النفسيين والاجتماعيين إلى تنفّس الصعداء، بعد أن علموا أنَّ التوقعات الفلكية قد تكون أداة من الأدوات التي يستعملها الغرب، لقولبة المجتمعات الشرقية بما يتناسب مع سياسة السيطرة الذهنية، لدفعها نحو القلق النفسي، ووضع الحلول لخططها بقوالب جاهزة، رغم عدم وجود أدلة تؤكد أنَّ ما يجري في الفضاء هو المسؤول عن تلك الأحداث الأرضية.
قراءات مستقبلية..
“ربما يكون توجّه العالم في المرحلة الراهنة نحو علوم الفضاء بهدف الشعور بالأمان وراحة البال، ولمعرفة نتائج ومستقبل الأحداث المتلاحقة التي يمرّ بها سكان العالم”. هكذا يوصّف رئيس الجمعية الفلكية السورية الدكتور محمد العصيري الحالة، قائلاً: “فنُّ التنجيم يقدّم توصيفاً للمرحلة الراهنة، ويستنبط منها قراءة مستقبلية. وهذا ما يجعل الناس بشكل عام بحاجة إلى معرفة مستقبل الأمور. وهذه طبائع البشر؛ حيث إنَّ معرفة المستقبل ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتاريخ الحياة على الأرض”، مشيراً إلى “كلمة التنبؤ التي يقوم بها بعض المنجمين، الذين يؤمَّن لهم فرصة ومناخ عمل واسع، وخاصة في ظروف لجوء البشرية إليهم بشكل أوسع. وهذا ما لا يستطيع نفيه علماء الفلك. ولكن نعود لنقول إنه تنبؤ لا يحمل أيَّ حقيقة علمية”.
تكهنات وفرضيات لا أكثر..
بالنظر إلى الأحداث الفلكية التي حدثت في العامين 2010 و2011، نلاحظ أنها ليست بالأحداث ذات القيمة الكبيرة؛ أي بمعنى آخر: لم يحدث أي حدث فلكي نادر مرتبط بالأرض، ولكن انتهز من يتحدَّث عن ارتباط هذه الأحداث بالأحداث الفلكية فرصةً للجوء الناس في ظلِّ الخوف الراهن من المستقبل. وهنا يرى العصيري أنَّ “القدرة الإعلامية الجديدة والأساليب التي تتبعها بعض وسائل الإعلام في عرض الحدث الفلكي كبيرة”، مشيراً إلى أنه “منذ فترة، عَبَر مذنَّب قريب من الأرض، حمل معه من التكهنات والفرضيات الشيء الكثير؛ حيث إنَّ بعض المنجمين ذهبوا إلى تبنّي فرضية “فناء البشرية” بسبب هذا المذنب، بالاستناد إلى دراسات الزلازل والبراكين وقت مروره فوق الأرض، وربطوا ما يُدعى بالثورات في العالم بهذا المرور للمذنب. ولكن إذا علمنا أنَّ هذا المذنب أصغر بكثير من القمر، وأبعد بآلاف المرات عن الأرض من القمر، نستنتج علمياً أن لا علاقة له بما يحدث على الأرض. وهذا المثال للتوضيح ليس إلا”.
ويوافقه الرأي خبير الفلك محمد الجبان، المعروف بـ”ورد”، من حيث عدم ارتباط ما تحدَّث عنه علماء الفلك من تكهنات بالواقع؛ فأغلب هذه التكهنات، في رأيه، عارية عن الصحة.. وهذا ما اتبعته السياسة الفلكية الغربية، عبر بثّ الشائعات وتثبيتها على أرض الواقع، لتؤثر نفسياً في مجتمعنا. ونلاحظ ذلك خلال بداية كل عام؛ حيث يتمّ الحديث عن الأزمات والكوارث والحوادث والفيضانات، بعيداً عما يجعل الناس متفائلين بعام جديد وجيد لهم. وهذا ما يؤكد أنَّ الغرب أيضاً يعتمد على تلقين بعض علماء الفلك العرب توقّع أحداث معينة، قاموا هم بالتجهيز لافتعالها وبثّها عن طريق أفواه المتحدثين بها.
الخوف من المجهول..
أكبر ظاهرة فلكية هي مرور بعض الكواكب في بعض الكويكبات (الأبراج)؛ حيث أصبحت الدراسة الفلكية للأبراج عبارة عن تهريج فلكي، في حال حدوث أيّ أزمة في بلد ما، حيث يتمّ الاعتماد على دراسة برج القائد أو الحاكم لمعرفة مصيره ومصير البلد الذي يحكمه. وهنا يتحدَّث العصيري صراحةً عن تأثر السوريين، ككل سكان العالم العربي، بشكل كبير بتلك الدراسات. وهذا ما تمَّت معرفته علمياً وعلى أرض الواقع، من خلال ارتفاع نسبة مبيعات الكتب الفلكية بشكل غير مسبوق، وازدياد عدد المواقع الإلكترونية الخاصة بالأبحاث الفلكية، لاسيما في بعض الدول التي تشهد حالة عدم استقرار.
وطبعاً السبب لا يعود، بحسب العصيري، إلى علم الفلك؛ فلا توجد أيّ حالة فلكية يمكن أن يعوَّل عليها في إثبات تأثير الفلك على كلّ ما يمر به العالم أو على مصير البشر. ولكنَّ السبب الحقيقي هو الضغط النفسي وحالة الشعور بعدم الاستقرار والخوف من المجهول، والسعي لمعرفته وكشفه مبكراً. وهذا ما أكده الطبيب النفسي هيثم علي؛ حيث أشار إلى أنَّ “الإنسان دائماً في حالة بحث للسيطرة على الشيء المجهول وفهم ومعرفة المستقبل. وهذا ما يسبّب القلق، خاصة فيما يتعلق بموضوع الحروب والأزمات التي تمرّ بها البلاد؛ ما يدفع الناس إلى البحث عن أيّ شيء لطمأنتها (عوامل تمنحهم تثبيتاً لسوية الأمور)”، مضيفاً: “عندما يقوم علماء الفلك بربط الأحداث والمشكلات الشخصية للأفراد بتحركات الكواكب، نقول إنه علمياً غير صحيح. والأصحّ أن تقوم المجتمعات بدور واقعي وأساس متين لتجاوز أزماتها وحلّها. وهذا لا يلغي أننا بصفتنا بشراً لدينا الرغبة في السيطرة على مستقبلنا. وما يجب القيام به في أيّ أزمة هو العمل على تفعيل الأدوات العلمية والمعرفية والواقعية فقط”.
تطورات فلكية اقتصادية أيضاً..
اللجوء إلى علم الفلك لم يرتبط فقط بالأمور والأحداث السياسية، حيث بات الناس يربطونه بالتطورات والأحداث الاقتصادية؛ باستجرار بعض المواد الاستهلاكية أكثر من حاجتهم، وهو ما يعكسه ويلعب على وتره بعض المنجمين. ولكن في النهاية، كما يقول العصيري: “إنَّ علوم الفضاء والفلك بريئة من هذه التكهنات، وجميع ما يحصل في السماء أمور طبيعية، ولا يوجد أيّ ظاهرة غريبة”.
حلول جاهزة ومجانية..
إنَّ ارتباط الأفراد بالفلك يأتي من منظومة معرفة الغيب عند الإنسان، وهو من طبيعة البشر، حيث يأمل الإنسان بذلك في معالجة المشكلات بأساليب جاهزة ومجانية. الدكتورة أليسار فندي (خبيرة اجتماعية) قالت: “منطقياً، علماء الفلك يدرسون حركة الكواكب وعلاقاتها بالمجرات من الناحية العلمية، دون ربطها بالأفراد”.
ويبقى تأثر الأشخاص بها يرجع إلى نوعية الشخصية وسماتها؛ فهناك مجموعة من الناس قد تتعرّض إلى المشكلات، وتعجز عن حلّها، فتختار أسلوباً متداولاً عند بعضهم وتقوم بتقليده. أما خطورة ما تمَّ ذكره فهي كبيرة؛ ففي حال كان الشخص يعاني من مشكلة نفسية سيتعلق بالأبراج ويتعرَّض لسوء التواصل مع نفسه والآخرين نتيجة وضع البرج”. وفي السياق نفسه، يتابع الطبيب النفسي هيثم علي: “المجتمع الشرقي لا يأخذ دوراً في السيطرة على الأوضاع التي يمرّ بها؛ فهو بحاجة إلى تنظيمها عن طريق الفلك، بعيداً عن الدور الحقيقي الفاعل. فالمجتمعات الميالة إلى ربط الأشياء في الإطار الفلكي تعدّ فاقدة لدورها في صناعة مستقبلنا. والمجتمع الشرقي، ولاسيما السوري، أكثر ميلاً إلى رمي مشكلاته على القدر والحظ”، معتبراً أنها وسيلة غير فعالة وصحيحة؛ فالأهم من وجهة نظره هو تطوير الأدوات بشكل فردي وجماعي لصنع المستقبل.

ويبدو أنَّ الغرب نجح في أداة التوقّع الفلكي، الذي يعدّ جزءاً من أدواتهم للسيطرة على عقول المجتمعات العربية، التي، من أسف، معروفة بانسياقها نحو أمور الغيب، ومعرفة المستقبل بطريقة سهلة ولو كانت كذباً. وما تحدَّث عنه علماء الفلك الغربيون وما نشرته وكالات الأنباء العالمية حول ما سيحدث في دول عربية ومنها سورية من توقعات، جزء من الأدوات التي يعتمدونها، لتكون الحلول بقوالب جاهزة. وفي النهاية، يقول فرويد: لا شيء موجود في الحلم إلا شيء حدث معك.
سيبقى علماء الفلك يسعون إلى كسب الحظوة لدى الجمهور، من خلال المصادفات التي تحصل بعد تكهنهم ببعض الأحداث. فاللجوء إلى علم الفلك حالة موجودة، لكنها ليست حقيقة علمية أبداً.