بَعدَك على بالي...

هيام حموي. البعث
قولٌ فرنسيٌّ شائع مفاده أن "المال لا رائحة له"، وطبعاً المقصود مجازاً أن مصدر المال لا يُمكن أن يُعرف للوهلة الأولى...
لكن من يدقّق قليلاً في ذاكرته البعيدة والقديمة سينتبه إلى أن للأوراق النقدية رائحة مميّزة، رائحة الورق الخاص الذي صُنعت منه، ورائحة الألوان التي اصطبغت بها، ورائحة المحفظة الجلدية أو البلاستيكيّة التي طويت فيها بعناية، أو رائحة الجيب الذي "تكرمشت" داخله بفوضى وعصبيّة، أو ربما رائحة النفتالين التي كانت تملأ الخزانة حيث خبّأتها يدٌ بخيلة ليوم الحاجة، ثم اضطرت لإخراجها للنور، على مضض، بعد أن راجت شائعات بقرب منع تداول الوريقات الجديدة في مظهرها، بالرغم من تقادم الزمن عليها، وقد حفظتها كرات النفتالين البيضاء من تآكل مادتها ولم تتمكّن من حمايتها من تآكل قيمتها...
ونستنتج أن للمال رائحة بالمعنى الفعلي، غير أن مسألة الرائحة تقودنا للحديث عن فيلم أمريكي أحدث
ضجّة في مطلع سنوات السبعينيات، "هارولد ومود"، ويروي قصة امرأة على عتبة الثمانين من العمر، لكنها تضجّ حيوية، التقت بشاب في الثامنة عشرة من العمر ويعاني من أخطر أنواع الاكتئاب، نوع يدفعه إلى إعداد سيناريوهات انتحار لمجرد إثارة الهلع في قلوب المحيطين به... الشاب والمرأة العجوز من هواة حضور الجنازات، وقد تعرّفا إلى بعضهما البعض في إحداها... تولّدت بين الاثنين صداقة قوية، وراحت العجوز تلقن الشاب بعضاً من تجاربها في الحياة.
صحبته مرّة إلى زاوية من بيتها وبدأت تفتح أمامه كنوز مجموعتها من التحف النادرة التي كانت قد جمعتها فيما مضى مع زوجها الراحل... من أثمن تحف المجموعة دزينة من القوارير الصغيرة التي بدت للشاب فارغة تماماً، لكن العجوز طلبت منه الترّيث وإغماض العينين، وصارت تفتح أغطية القوارير تباعاً على مقربة من أنفه وهي تقول: "لقد كنا، زوجي وأنا، مولعين بجمع الروائح التي تبدو لنا في طريقها إلى الانقراض...
استنشق ما يلي، إنها رائحة مترو نيويورك عند الساعة الخامسة مساء، في عز الازدحام، خليط من روائح فحم وعرق وعطور وبخور... وداخل هذا المرطبان رائحة التراب في حديقة أطفال بعد هطول قطرات المطر الأولى في مطلع الخريف... وهنا، في هذه القارورة، رائحة العشب النديّ المقطوع لتوّه، وتابعت العجوز استعراض الروائح المحفوظة في قوارير تبدو فارغة ظاهرياً، لكنها مليئة بما هو غير مرئي، وقد أمكن ذلك عن طريق فعل علمي مركّب ومعقّد، كان يُعتبر معجزة في الأزمنة السابقة، وسمح بحفظ الروائح في القوارير، روائح، للأسف، اختفت من الوجود بفعل تطوّر التقنيات والعلوم!!!.
ثم توقّفت المرأة المخضرمة عند قارورة فاحت منها رائحة مدهشة فاتحة للشهيّة، تدغدغ الأنف ويسيل لها اللعاب، رائحة انتزعت دمعة طفرت من زاوية عين العجوز... نظر الشاب مستغرباً إلى معلّمته في الحياة ثم عاد للرائحة وقد ارتسمت في نظراته أكبر علامات الاستفهام... ابتلعت المرأة ريقها وقالت وقد علت وجهها ابتسامة امتزجت بحنان غريب: "مدهشة أليس كذلك؟ إنها رائحة الخبز الطازج الخارج تواً من الفرن، نار الفرن تتأجّج بحطب الأشجار، والخبز كان يُصنع يدوياً من طحين وماء وخميرة وملح...
إنها رائحة صباحية تجعلك تعشق الحياة في بداية نهارك وتُقبل عليه بنهم!!!".
ثم عادت العجوز وتناولت قارورة أخرى، وضعتها تحت أنف الشاب قائلة: "جرّب هذه..."، استنشق الشاب مغمض العينين وقال: "إنها الرائحة ذاتها".. ابتسمت المرأة وهي تتمتم: "أنا مسرورة لأنك لاحظت الشبه بين الرائحتين لكنها ليست الرائحة ذاتها، فالرائحة الثانية هي رائحة بشرة المرحوم زوجي عندما كان يستيقظ من النوم في الصباح، بشرته الدافئة كانت تذكّر برائحة الرغيف الساخن الذي يرغم حتى أكثر الوجوه عبوساً على الابتسام!!!"..
ماذا لو فتحنا قوارير الذكريات، واستعدنا رائحة أيام الهناء والطمأنينة، رائحة فيها الكثير من عطر صابون الغار و"الترابة الحلبيّة" الممزوجة بعبق ماء الزهر الذي يفوح من بشرة أطفال سهرت أمهاتهم على العناية بهم بكثير من الدفء والحنان والترانيم والصلوات النابعة من القلب، باختصار رائحة البراءة... يا زمن البراءة... بعدك على بالي.