بلا ولا شي...

 

هيـــــام حموي . البعث

 

كل المؤشرات كانت تدلّ على أن عددهم تقلّص بشكل ملموس بما لا يقبل الشك، في زمن يوصف بأنه "آخر زمان"، لكن عندما اجتمعوا في تلك القاعة بالقرب من بيت العبادة المعروف، بدا عددهم كبيراً، أو هكذا خيّل إليها، وهي الشخصية الرومانسية التي سعوا إلى لقائها، للاستفسار بالدرجة الأولى عن سر تفاؤلها الدائم على الرغم من كل ما جرى ويجري لها وللحياة من حولها، في الحاضر الراهن وكذلك على مرّ العقود العديدة التي عاشتها بسرّائها وضرّائها، بحلوَها ومرّها.

 


والظاهرة اللافتة الأخرى أنها لاحظت بما لا يقبل الشك أنهم كانوا في مثل سنّها أيام كانت تبحث، هي بدورها، في مطلع ربيع العمر، عمن يمكن أن يؤكد لها أن الحياة ممكنة في كل الظروف وأن نسغ الوجود قادر على اختراق صخرة ليتجلى في هيئة نبتة برّيّة تتحدّى صلابة الجمود والجلمود، فتبرز حاضرة وكأنها تبتسم بسخرية طيبة وماكرة من خلال زاوية شقّ حجري.

 


 

بدا عددهم كبيراً، لكنها شعرت بأنها تعرفهم فرداً فرداً، وأن هنالك ما يشي بنوع من القرابة يجمعها بهم، استقبلوها بأنشودة فيروزية تشبه الصلاة، فتأثرت حدّ الدموع، وبدؤوا بسؤالها عن صعوبة تحمّل ازدواجية اللغة عند الغالبية العظمى ممن يعرفون وممن سلّموهم مقاليد حياتهم بمنتهى الثقة، كما سألوا عن رأيها في انتشار حالة الفصام التام بين أركان الثالوث الأساسي: الفكر والقول والفعل؟ واستفسروا حائرين كيف أن البعض قادر على إنتاج أسمى أنواع الإبداع في الفنون والآداب فيما هو يعيش، في حياته اليومية، أقصى حالات التناقض مع ما ينتج؟ ثم سألوها عن سر السلام الداخلي الذي انتقلت عدواه إليهم بمجرد التقاء العيون، اختصرت إجاباتها بأن سردت لهم الأسطورة التي كان قد همس لها بها كائن يقطن حالياً في العوالم اللامرئية، فروت عنه أنه عندما قرّر الخالق أن يسمح للرومانسيين بالنزول إلى الحياة، اشترط عليهم أن ينغمسوا لمدة سبعة أيام في أجواء أجمل جنانه، أصفاها وأنقاها...

 سبعة أيام كاملة بلياليها، سبعة أيام من تلك التي تُقاس بحساباته الكونية الخاصة، أي إنها من التكثيف بحيث يكون الإحساس شديد الالتباس بين طولها وقصرها... بعد ذلك، بارك انطلاقتهم في وهاد الحياة وفيافيها ليعيثوا فيها، نعم "ليعيثوا" فيها حباً وجمالاً.

 


وليعيشوا أيضاً في تعاريج عذاباتها وآلامها، فهنا تكمن المشكلة، لأن القبح والكره أيضا منتشران، ما يجعل مهمتهم شاقة ومضنية... قال الراوي إنهم سيتعرفون على بعضهم بسهولة عندما يلتقون... مثلما "يحدس" بوجودهم أنصار القبح وأعداء النقاء...تنظر إليهم، وإذا كنت واحداً منهم، ستعرفهم من ومض الجمال الذي بقي منعكساً في أعينهم بعد استحمامهم في شلالات الجنة الإلهية الأولى، تعرفهم من هالة الوداعة التي تحيط بهم، من بسمتهم التي تكثف بدورها كل النغمات مجتمعة على سلم موسيقا المشاعر، ابتداء من "دو" الكآبة الهادئة وحتى "سي" الابتهاج الأقصى، مروراً بالـ "ري مي فا صول لا..." الإشراق العاشق والابتسام الحاني والانفتاح الرحيم والانعزال المنغلق"،  كلها تدوينات موسيقية بإمكانهم أن يعزفوها على شتى مقامات "الصبا/الوجد والسيكا/الثقة" التي يوحي بها حضورهم، وطلب أيضاً منها أن تقول لهم: "أما آن لكم أن تتحدوا لمواجهة القبح الزاحف بجحافله على الحياة... وأن تتملكوا بعض الأسهم في مؤسسة الحب "القابضة" على سر "ذهب الزمان"؟

 


ووعد أنه عندما يحين الأوان، ستوزّع الأرباح على شكل نثرات من البريق غير الملموس، القادر على حماية رهافة الأحاسيس وهشاشة الحواس الخمس... وأوصى بعدم نسيان الحاسة السادسة من أجل الدفاع عن الوردة.

 
كل من كان حاضراً في ذلك اليوم واستمع إلى الأسطورة الغريبة استطاع التعرّف على باقي الحضور، "بلا ولا شي"... لهيك، تعوا نقعد بها الفَيْ!!!.