بيت صيدا الجولانية.. مدينة المسيح المفقودة

السيد المسيح يصيد السمك وتلاميذه في بيت صيدا

شام نيوز - تيسير أحمد

يتكرر ذكر بيت صيدا كثيراً في العهد الجديد وبأناجيله الأربعة، وكانت على الدوام هدفاً ومقصداً للحجاج وعلماء الآثار والباحثين الأكاديميِين على مر العصور.

وفي الأزمنة السحيقة، قطع كثير من المؤمنين مسافات شاسعة لزيارة هذه البلدة، حيث قام السيد المسيح بالعديد مِنْ المعجزات الكبرى.

كانَ موقع بيت صيدا الحقيقي محل خلاف في الألفية الأخيرة، ومادة للجدل لدى الرحالة وعلماء الآثار الكتابيين في القرن التاسع عشر، وقد تم توثيق أكثر من 20 محاولة لتحديد موقع المدينة من قبل حجاج ورجال دين مسيحيين قبل عام 1800. وفي السنوات العشرين الأخيرة توصل الأركيولوجيون مستفيدين من المعطيات العلمية الحديثة إلى إجماع بشأنها، وتم تحديد موقع التل (تل الأعور أو تل عامر) في سهل البطيحة الجولاني كمكان وحيد ونهائي لهذه المدينة المفقودة.

 

موقع قديم

 

تمتد مدينة بيت صيدا على مساحة 20 هكتارا، ويسود الآن اعتقاد في الأوساط الأكاديمية بأن المدينة التي عرفت بهذا الاسم منذ أكثر من خمسة عشر قرناً قبل الميلاد كانت عاصمة مملكةَ جيشور (أو جسور) الآرامية التي يرد ذكرها للمرة الأولى في رسائل تل العمارنة بين الفرعونين، أمنحوتب الرابع ووالده أمينوفيس الثالث خلال الأعوام (1390- 1352 قبل الميلاد.)، وحُكَّام الولاياتِ الصغيرةِ في شرق المتوسط والتي كانت تحت هيمنة المصريين. كما يرد ذكر جيشور في العهد القديم في أكثر من موضع أهمها أن الملك داود تزوج معكة ابنة تلماي ملك جيشور والتي أنجبت له ابنه أبشالوم، وأن هذا الأخير لجأ إلى أخواله في جيشور أثناء صراعه مع أشقائه.

 

 

تمثال للإله الآرامي حدد عثر عليه في بيت صيدا

 

بلغت بيت صيدا شأواً بارزاً في التاريخ المسيحي عبر ارتباطها بالعديد من الأحداث الرئيسية في حياة السيد المسيح وحوارييه. وقد أشار العهد الجديد إلى أن هذه المدينة التي يعني اسمها مكان صيد السمك تقع إلى الشرق من نهر الأردن أي في الجولان، حيث التقى فيها المسيح أتباعه الأوائل فيليب، وبطرس وأندراوس ابنا يونا، ويوحنا ويعقوب ابنا صياد السمك زبدي ، وحيث قام بمعجزة إطعام خمسة آلاف من خمسة أرغفة وسمكتين، وكذلك معجزة علاج الرجل الأعمى، ومعجزة المشي على الماء.

 

محطات تاريخية

 

يذكر المؤرخ الروماني جوزيفوس فلافيوس أن فيليب ابن هيرود (أو حرد الأدومي العربي) الذي حكم الجولان من عام 4 قبل الميلاد إلى 34 ميلادية طوّرَ قريةَ بيت صيدا في سنة 30 ميلادية وجعلها "مدينة" (polis) وقام بتقوية تحصيناتها وزاد في عدد سكانها وأطلق عليها اسم "Julias" تكريماً لبنتِ الإمبراطور أغسطس قيصر.

لا يتضح لنا من خلال الأناجيل إن كانت بيت صيدا مدينة أو قرية عندما زارها السيد المسيح، فمتى ولوقا يصورانها كمدينة بينما مرقص يعتبرها قرية، وبالمقارنة مع قيصرية فيلبي والتي هي بانياس الجولان فإن فيها الكثير من معايير المدن حيث تسيطر على أراض شاسعة.

أما الدليل الذي يمكن أن يدعم كون بيت صيدا مدينة في عصر السيد المسيح وجود  تراتب اجتماعي، فبالإضافة إلى  تعامل السيد المسيح مع المستضعفين والمرضى ومؤازرته لهم في معظم وقته  نجد أنه تَعاملَ أيضاً مع شخص ثري  هو زبدي الذي كَانَ قادراً على استخدام الأجراء. (مرقص1: 20) هذا التمايز الطبقي يؤشر إلى تركيبة مدينة وليس قرية.

أيقونة أرمنية قديمة لمعجزة شفاء أعمى بيت صيدا

 

موقع المدينة الصحيح عرف من قبل الحجاج المسيحيين القدماء حتى فترة حروب الفرنجة، ففي عام 530 ميلادي حدد الإمبراطور تيودوسيوس موقع بيت صيدا إلى الشرق من كفر ناحوم بستة أميال وعن منابع الأردن بنحو خمسين ميلاً. أما رئيس أساقفة بافاريا إيخستات الأول فقد حج إلى المدينة المشهورة أيضاً في عام 725 ميلادي [107 هجري] في عهد الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك ووصفها بأنها مدينة بطرس وأندراوس، حيث  شاهد كنيسة في مكان بيتِهم.

وقد غاب أي ذكر للمدينة بعد ذلك والمؤكد أن زلزال عام 749 ميلادي [132 هجري] قد أتي على ما تبقى من هذه المدينة مثلما فعل في الكثير من المدن القديمة في الجولان، ومن غريب الاتفاقات أن هذا الزلزال وقع في العام نفسه الذي سقطت فيه الخلافة الأموية بيد العباسيين، لتبدأ مرحلة حالكة من تاريخ الجولان وبلاد الشام عموماً تمثلت بتحولها من مركز الإمبراطورية العربية الإسلامية إلى طرف من أطرافها، بل إلى طرف مغضوب عليه يعاني التجاهل والإجحاف.

 

رحلة البحث

 

وقد تشوشت الصورة كثيراً منذ حروب الفرنجة وحتى القرن الثامن عشر عندما حج ريتشارد بوكوك وهو رئيس أساقفة أنجليكاني عام 1738 إلى شاطئ طبريا وشكك بمكان بيت صيدا حيث كان شائعاً في ذلك الزمن أن موقع عين التينة على الضفة الغربية لنهر الأردن هو المكان الذي يحج إليه المؤمنون على خطى السيد المسيح. 

وعندما قام مؤسس علم الآثار الكتابي البروفيسور الأمريكيَ إدوارد روبنسن برحلته الاستكشافية إلى الأرض المقدّسة في 1838، تسلق التل الذي ينتصب وسط سهل البطيحة وحدّدَ مكان بيت صيدا على مسافة ميل ونصف الميل عن شاطئ البحيرة، وبعد أكثر من عشر سنوات أكد تومسون وهو عالم آثار كتابي آخر  أن أهالي البطيحة أخبروه أن بيت صيدا هي المسعدية وهي إحدى قرى البطيحة وتقع إلى الجنوب الشرقي من التل، وهذا يدل على أن الاسم ظل متداولاً ومعروفاً من قبل أهل البلاد. وبعد نحو نصف قرن اقترح عالم الآثار الألماني غوتليب شوماخر موقع المدينة في قرية العرج أو المسعدية على اعتبار أن بيت صيدا كانت على الشاطئ.

المشكلة الرئيسية التي واجهت مقترح التل كما أوضح الراهب البندكتي بارغيل بكسنر عام 1985هي أن إنجيل يوحنا بخلاف الأناجيل الأخرى يذكر أن بيت صيدا تقع على الجانب الغربي لنهر الأردن. وفي محاولة لحَلّ المشكلةِ اقترح بكسنر، بالاعتماد على عمل الطوبوغرافي غوستاف دالمان، بأنّ نهرَ الأردن غيّرَ مجراه بمرور الوقت.

 

وفي عام في 1991 تشكل ائتلاف أكاديمي عالمي للبحث عن بيت صيدا، حيث شاركت فيه  17 جامعة وكلية من كافة أنحاء أمريكا وأوروبا برئاسة جامعة  نبراسكا أوماها وجامعة هاردفورد الأميركيتين.

 

حل اللغز

 

اتجه علماء الآثار إلى خبرة البروفسور جاك شرودر، الذي ألقىَ نظرة واحدة فقط على الخرائطِ الجيولوجية للمنطقة ثم صاغ الفرضية التي حلت اللغز في النهاية عام 2001. وملخصها أن خط شاطئ البحيرة اليوم لَيسَ بالضرورة هو نفسه الخط القديم. فالتل يقع فوق أحد أكثر المواقع الزلزالية نشاطاً في العالم وهذا كان الخيط الرفيع الذي قاد إلى حل اللغز.

 

 صورة جوية لموقع تل بيت صيدا

وصف الموقعِ:

 

*من الاكتشافات الجديرة بالاهتمام بوابة للمدينة تعود إلى القرن التاسع قبل الميلاد، وهي من أفضل البوابات التي مازالت محتفظة بتفاصيلها في عموم المنطقة. وطبقا للمسح الراداري فإن حائط المدينة الذي مازال يحتفظ بارتفاع يبلغ أكثر من متر ونصف المتر يعود إلى فترة أقدم من هذا التاريخ.
وعليه فإن المدينة بنيت على مرحلتين وفي جزأين.. جزء مرتفع وجزء منخفض. الجزء المرتفع يضم الأبنية العامة والتحصينات، والجزء الأوطأ يضم الحيّ السكني.
كتلة بوابة المدينة تظهر وجود بابين لكل منهما برجان، باب للمدخل الخارجي وآخر للداخلي، يفصل بينهما ميدان معبّد كبير. وتظهر الأرض المرصوفة  آثار عجلات العربات التي يبدو أنها كانت منتشرة بكثرة.

عثر على أربع غرف مليئة بالأنقاض تعود إلى بناء عام للمدينة من الفترة التي سبقت الهجوم الآشوري، والغريب أن البوابة امتصت صدمة الهجوم الآشوري وكذلك صدمة زلزال كبير أصابها.

من الواضح أن أحجار البازلت كانت مجصصة باللون الأبيض وهناك مقعد منخفض لشيوخ أو حكام المدينة الذين يستمعون إلى شكاوى العامة عبر البوّابة.
عثر في إحدى الغرف الأربعة على شعير محروق ورؤوس رماح وسهام، من الحملة ضدّ تغلات فلاصر. إضافة إلى دورق عليه رمز الحياة المصري عنخ ( (ankh.
وعلى جانبي الباب الداخلي هناك كوّات، للأغراض الدينية. وعلى خطوتين حوض ناعم صنع من حجارة البازلت؛ فيه مشعلي بخور، وكؤوس صغيرة مثقبة بثلاثة سيقان قصيرة.

حول الكوة عثر على بقايا قطع بازلت للنصب الذي يمثل حدد إله المدينة، حيث أعيد تجميعه من مسافات متباعدة، ويمثل ثوراً قوي المظهر بقرونه، متزنراً بسيف قصير يشبه القاما الشركسية. وهو نصب فريد من نوعه في عموم منطقة شرق المتوسط، كما أنه نادر على كل حال حتى في بلاد الرافدين التي عثر فيها على ثلاثة أنصاب فقط تتعلق بالثور كرمز لإله القمر، الذي يعتبر أحد أكثر الآلهة شعبية  في الشرق الأدنى، وهذا الإله كان يعتقد بأنه خالق الكون (مثل القمر حين  يخلق ضوءاً في الظلام).
البوّابة كانت تفضي إلى قصر يعود إلى القرن التاسع قبل الميلاد. لهذا القصر دهليز يؤدي إلى غرفة رئيسية، من المحتمل أنها غرفة العرش؛ إضافة إلى ثمانية غرف أخرى  تحيط بها. وقد نجا هذا القصر من الهجوم الآشوري، ورمّم عدّة مرات.
داخل القصر عثر على تمثال صغير للإله المصري باتيكوس، إله الفنانين والحرفيين. إنّ التمثال الصغير مصنوع بشكل رفيع جداً، ويصوّر قزما بقلادة مخرّزة متقنة وسكينين أو خنجرين. من المحتمل أنه يقف على تمساح، كما في النسخ الأخرى منه، لكن قدمه مكسورة بشكل متعمد لفصل التمساح عنه. يحتفظ هذا التمثال الصغير بآثار الخزف التركوازي تحت رقبته ويده اليمنى.
عثر في القصر أيضاً  على نقش فخاري، من القرن الثامن قبل الميلاد، لاسم عقيبا وهو اسم آرامي صرف، كما عثر أيضاً قرب المعبد على تمثال امرأة وثلاث قطع عملة معدنية عليها صورة والي ربع تراخونيتس فيليب، ربما نقشت أثناء تغيير اسم المدينة من بيت صيدا إلى جولياس.

  



الحي الهلليني

 

تم التنقيب في حي يعود إلى الفترة الهللينية (332-37 قبل الميلاد) وتبين أنه يتضمن عدداً من البيوت الخاصة وفي كل بيت عدد من الغرف  التي تحيط بفناء مبلط. وفي شرق الفناء مكان نموذجي كمطبخ وإلى الشمال غرفة طعام، ويعتقد فريق الآثاريين أن غرف النوم كانت في طابق ثان.

أحد البيوت يعود إلى صياد سمك، وجدت فيه أدوات تعبر عن ثقافة متطورة ارتبطت بصناعة صيد السمك مثل  شبكة صيد مع ثقالاتها ومراسي وإبر وصنارات صيد. وإحدى الصنارات لم تكن قد ثنيت، مما يشير إلى أنها صنعت في المكان، كما عثر على مفتاح بيت الصياد محتفظاً بشكله العام رغم انه مصنوع من الحديد، وقد تم إهداء نسخة مصنوعة طبق الأصل من هذا المفتاح للبابا يوحنا بولص الثاني عندما زار الأراضي المقدسة مطلع الألفية الثالثة وطاف بمروحية فوق موقع بيت صيدا لإلقاء نظرة على هذا المكان المقدس.

وجدَ أيضاً ختم من الصلصال، يُصوّرُ شبكة تعود إلى سفينة فينيقية الطراز ومقدمة سفينة على شكل رأس حصان.  كل ذلك يدعم نظرية أن بيت صيدا كانت أقرب إلى الشاطئ في عهد السيد المسيح.

ووجد أيضاً بيت يحوي قبواً للتخمير وجرار نبيذ كبيرة وقد دعي هذا المكان "بيت صانعِ النبيذ".

ومن بين الاكتشافات أيضاً مجرفتا بُخور برونزيتان. تشبهان تلك المجارف المستعملة في المعابد الرومانية الأخرى، وأيضاً تشبهان مجارف بُخور ظهرت في لوحات فسيفساءِ الكنَائسِ مِنْ الفترةِ البيزنطية. كما عثر أيضاً على مجوهرات وسفن فخمة. ما زال التنقيب جارياً.