بين القمباز والقميص

خيري الذهبي - تشرين

هل الأزياء شيء محايد أصلاً, أم إنها هوية يعلن بها الإنسان الفرد عن هويته, فحين تلبس القمباز فأنت تعلن هوية محلية تقليدية.

من عاش في الخمسينيات يذكر الصراع المرير بين لابسي البنطلون ولابسي القمباز أو الشروال, فلابس البنطلون كان يعلن بلبسه ذاك أنه حداثي متأورب, وكان ينظر إلى لابسي القمباز والشروال بازدراء فهم رجعيون متخلفون متعلقون بماض رجعي مرفوض, والمضحك أن البعض كان يرفض دخول لابس البنطلون إلى الجامع للصلاة فالبنطلون كاشف للعورة, ألا يصور ويجسد الإليتين أثناء السجود واستطراداً لابد للإنسان أن يتساءل: هل لبس الكلابية النجدية في أيامنا هذه عند المضي إلى الجامع تدين أم انحياز فكري لا واع وهل كان مضي الملايين من شبابنا إلى السعودية للعمل خلال الخمسين سنة الماضية هل كان مضياً بريئاً بمعنى أنهم تأثروا بالزي فقط, أم بالأفكار أيضاً. ‏

ولكن لندع هذا جانباً ولنبق عند حدود الأزياء فقد رأيت منذ أيام رئيس الوزراء الليبي الجديد عبد الرحيم الكيب وقد تخلى عن زيه الأوروبي الذي عرفناه به بعد عودته من الغرب وكان هناك أستاذ جامعي عاد لتسلم منصبه الجديد فرأيته وقد وضع نوعاً من غطاء الرأس يعرف به الليبيون وهو نوع من طربوش قصير, ومعطف مطرز تطريزاً جميلاً لاعلاقة له بالزي الأوروبي فتساءلت لم فعل ذلك, وهل كان الزي الأوروبي ثوباً تنكرياً بالنسبة له وها هو يعود إلى الأصالة أم أن لبسه هذا هو تملق لرجل الشارع الليبي؟. ‏

وأصر على السؤال: فهل الزي شيء كمالي أم إنه هوية نعلنها فالمرأة التي تلبس الساري هي الهندية ومن يلبس الكلابية ذات فتحة الصدر العريضة ولا ياقة لها هو المصري وإذا رأيت من يلبس الفوطة ذات المربعات لوناً والملفوفة حول الخصر لتغطي النصف الأسفل من الجسد فهو اليمني. ‏

أما في أيامنا هذه فمن الصعب أن ترى مسؤولاً في مصر يلبس الكلابية فلقد حسم المجتمع المديني أمره وجعل الزي الغربي هويته وربما ما عدا عبد الحكيم عامر وأنور السادات اللذين رأينا صوراً لهما في جلسات خاصة يلبسان الزي البلدي وما عدا هذين الزعيمين لم نر متنفذاً مصرياً يلبس الكلابية. ‏

أما في سورية فلقد حسم سكان المدن منذ القرن الماضي أمرهم فاختار الوجهاء أثناء المرحلة العثمانية وحتى النصف الأول من القرن العشرين نوعاً من زي الفرات الغربي وسموه البذلة المحكمجية وحين أعلن البعض عن بحثهم عن الزي الوطني اختار البعض القمباز, واختار آخرون الشروال متخيلين أنه الزي الوطني غير عارفين أنهم كانوا يتمسكون بزي أجنبي تزيَّ به آباؤهم في زمن ما, فالقمباز زي فارسي دخل مع الفاتح الفارسي قمبيز والذي فتح الشام ومصر ويمكن رؤيته على تماثيله, والصلة اللغوية بين قمبيز وقمباز وحروف الإمالة شديدة الدلالة, أما الشروال الذي يتغنى به المدافعون عن الهوية الوطنية ويلبسونه لشخصياتهم الشعبية في المسلسلات هذا الشروال زي فارسي أصلاً وقد انتشر حتى سواحل المتوسط غرباً ومنطوقه بالفارسية سراويل ثم عرّب إلى سروال وسربال وشروال إلخ. ‏

أما الأكثر غرابة فهو الاسم الذي يقاتل المدافعون عن المحلية من أجله وأعني القميص ويذكرون للتأكيد على محليته مقولة الخليفة الراشدي الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه حين طلبوا منه النزول عن الخلافة: ما كنت بخالع قميصاً قمّصنيه الله ثم يهتفون في انتصار: الاسم عربي وقد سرقه منا الفرنسيون في كلمة شميز, ناسين الكلمة اللاتينية كميسا وهو اسم لثوب لبسه الرومان ونراه على تماثيلهم بينما لا نجد لكلمة قميص أي جذر أوتصريف في العربية. ‏

والنكتة الكبرى هي في الطربوش الذي كان سبباً لمعارك فكرية وصحفية طويلة في أوائل القرن العشرين بين المتمسكين بالزي الوطني! الطربوش وبين الداعين إلى التخلي عنه والدخول في ثوب الحضارة والمعاصرة البرنيطة والحق أن الطربوش غطاء رأس نمسوي انتقل إلى الدولة العثمانية ثم انتقل من البلاط العثماني إلى كبراء الولايات العربية ثم إلى أوساط الناس. ‏

وإذن فأين نحن وأعني الشاميين أليس لنا زي خاص بنا وها هي تدمر في ريليفاتها الأثرية تعج بالأزياء الرومانية واليونانية بل حتى الفارسية وهكذا رأينا الصراع بين القمباز الفارسي والقميص اللاتيني لم يتوقف منذئذ. ‏

ولابد للقارئ أن يتساءل فما الذي ذكرك بالأزياء هذه الأيام والجواب كان عند الصحفي المصري جلال عامر الذي قال كلمة شدتني بقوة: لدينا في مصر أناس يعيشون في مكان جغرافي واحد هو مصر ولكنهم يعيشون في أزمان مختلفة فلديهم الزمن الفرعوني يعيشون فيه إلى جانب العباسي والفاطمي والتركي والليبرالي والناصري الخ. ‏

وبهدوء أمنت على كلامه ناقلاً الأمر إلى سورية فالكل يعيش في الحيز السوري نفسه ولكن الكثيرين يعيشون أسماء وأفكاراً وأزياء ورؤى للسماء والبعث تعود إلى الزمن اللاتيني واليوناني والفارسي والعربي بل حتى العثماني وأخيراً جداً الأوروبي فأين نحن إذن؟ها نحن هجرنا الطربوش النمسوي ولم نلبس البرنيطة فبرد رأسنا وانتقل من المجسد إلى المجرد فأذكر أنا عند طفولتي كنت أسمع من يقول للزبون مثلاً: صحيح أنك لا تراني ولكن الله يراني وهكذا كان الدين والله يملأان القلوب والعقول فيجبر الناس على طاعة الأخلاق من ابتعاد عن الرشوة والسرقة والفساد فالله يراني ولكن مفكري نصف القرن الأخير حاولوا جادين تحييد الفكر الديني وفشلوا فشلاً ذريعاً في إحلال فكرة القانون المدني الذي يحكم الغرب محله فانتشرت الرشوة والغش والفساد فلم يعد هناك رادع لمن يريد الفساد في الأرض. ‏

ويعود السؤال: ألن يأتي اليوم الذي نختار فيه غطاء للرأس بعد رفضنا الطربوش والبرنيطة فنستعيد المجتمع المدني والقانون الفيصل بدلاً من هذا الضياع الذي نعيشه. ‏