بين حامد وابن ماجد

خيري الذهبي - تشرين
كنت أقلّب في محطات التلفزيون أبحث عما يدفع عني السأم حين رأيت على الشاشة رجلاً جليلاً في ثياب عربية استطعت أن أمّيز منها العمامة العُمانية,
كان الرجل يتحدث في أمور لا يتحدث فيها عادةً لابسو الزي العربي, كان يتحدث عن الهند وتجربتها في الديمقراطية في إفاضة العارف, و.. فاجأني وهو المعمم حين قال:
إن المواطن الفرد يجب أن يكون حراً في اختياره بين العلمانية و.. الدينية, وتحدث عن عدم قدرة العلمانية الصرفة, أو الدينية الصرفة على احتمال فكرة التعصب, ثم نطق الكلمة بالانكليزية (فاناتيزم)!
عدّلت من جلستي, وأخذت أنصت في اهتمام, كان الرجل جليلاً في منظره, جليلاً في زيّه الوطني المخالف لما نعرف من اختيار المثقف العربي للزي الغربي بحيث لو ظهر مرة في زيه الوطني لنظر إليه في استسخاف, ثم تذكرت أنّ هذه السمة, أي الاعتزاز بالزي الوطني هي سمة من سمات الحكام والمحكومين في عُمان.
تابع الرجل حديثه, فقال: الاختلاف المذهبي لا يجب أن يحارب, ففي حربه إذكاء له, ولكن يمكن تجاوزه والعلو عليه عبر إعلاء فكرة أكثر معاصرة وحيوية, واستجابة لوسطي الناس خارج, أو عبر المذاهب, ثم قال: الاختلاف المذهبي لايُهزم بل يحيّد بتغليب فكرة أخرى عليه كالمواطنة مثلاً التي تؤاخي بين الجميع, فلا تمييز بين المذاهب والأعراق, فالوطنية هي مفتاح السلام الوطني.
أخذت استمع في اهتمام إلى حديث الرجل الحر والجريء والهادئ كمن يتحدث عن تنسيق نباتات زينة, كنت أريد معرفة الرجل, وكان لدهشتي سفيراً سابقاً لبلده في الهند, وتنهدت: فكم نحن بحاجة إلى مثل هذا الرجل الصادق الجواد المقنع في زمننا هذا.
و.. بدأت أنقّب في مكتبتي أريد معرفة المزيد عن عُمان هذه التي تزهو برجل بهذه الأهمية وفوجئت بأن هذه الدولة المنزوية على أطراف العالم العربي, فوجئت بأنها كانت امبراطورية تحكم شرق إفريقيا حين كانت معظم البلدان العربية واقعة ضمن الامبراطورية العثمانية, و... تذكرت مراهقتنا السياسية في ستينيات القرن الماضي حين قامت تنغانيكا بالاتحاد مع جزيرة زنجبار مشكلة ما سيُعرف فيما يعد بدولة (تانزانيا) وكان أول ماقاموا به مذبحة عنيفة للعرب في زنجبار, وابتهجنا في حينها, فلقد انتصر الشعب على سادته, ولم يكن لدينا أدنى فكرة عن عُمان إلا الاسم الغامض الغارق في قروسطينه, ولم يكن جيلي يعرف الكثير عن الأسرة العمانية الحاكمة والتي تخلى أحد سلاطيتها عن عُمان واستوطن في زنجبار مشكلاً دولة زنجبار وتوابعها على البر الافريقي برئاسة السلطان سعيد ثم ابنين آخرين, ولكن من طال به الحكم حتى شهد الألمان الاستعماريين والبرتغاليين والبريطانيين يتصارعون على سلطنته, وكان قد بنى مدينة سماها دار السلام التي ستصبح في قابل الأيام وبعد أكثر من قرن عاصمة لتنزانيا محتفظة باسمها العربي بقية باقية من أيام المجد العماني.
أقفلت الكتاب المرجع, وأخذت أفكّر في عُمان الدولة البحرية التي كان دلالتها ابن ماجد البحار الشهير الذي دلّ فاسكو دي غاما على طريق رأس الرجاء الصالح فكان في هذه الدلالة أولى خطوات انهيار الشرق العربي اقتصادياً, هذا الانهيار الذي سيكمله غزو السلطان سليم العثماني لمصر والشام و (تشليح) البلدين من كل مظاهر الحضارة العقلية والمهنية.
ووقفت أتساءل: كيف يمكننا أن نقيمّ مثل هذا الرجل. أهو خائن لشعبه وحضارته, أم هو من أسر كما قيل وأسكر حتى اعترف بمفاتيح معابر رأس الرجاء الصالح.. هل قَبِل الرشوة, فباع مستقبل العالم العربي والمحيط الهندي لقراصنة البرتغال؟ لا أعرف.
ولكن رجلاً آخر هو حامد بن محمد وكان من العرب العمانيين أيضاً كان من دلّ (المستكشف) هنري ستانلي على افريقيا الداخلية وعلى بحيرتها العملاقة مقابل رشوة هي خمسة آلاف ليرة للامبراطورة النمساوية ماري تيريز فأفقد العرب كل تميز تجاري وثقافي في افريقيا, وصارت البحيرة الافريقية الغامضة تسمى بحيرة ستانلي, وصارت عاصمة الكونغو تسمى ستانلي فيل.
انتصر الغرب, وأخذوا في تشويه تاريخ العرب السابقين لهم في اكتشاف وحكم افريقيا, فشوهوا تاريخ العرب بحيث صرت لا تقابل افريقياً إلا وحدثك عن تجار العبيد من العرب, رغم أنّ تجارة العبيد عبر البحار والتي نقلت ثلاثين مليوناً من الافريقيين إلى اميركا, هذه التجارة كانت بيد الفرنسيين والاسبان والبلجيك و... لكنها حماقة من دلهم على افريقيا وأسرارها فأضاع أهله, ودينه وتاريخه..!