تبادل الأسرى بين حماس وإسرائيل.. مجرد صفقة

 

 

القصة الملحمية الأسطورية التي ظلت دائرة منذ خمس سنوات، والتي اسفرت عن إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط في واحدة من صفقات تبادل الأسرى غير المتكافئة على نحو غريب، والتي تجعل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بالغ المأساوية والإرباك، تمتلك كل السمات المميزة لحكايات جون لو كاريه المرعبة المثيرة.

في واقع الأمر، ليست هناك طريقة يمكنك بها وضع نصف دزينة من أجهزة المخابرات -بما فيها الألمان والإسرائيليون، ومجموعتان من الفلسطينيين (حماس وفتح)، والأتراك، والمصريين والأميركيين- في القصة ذاتها ثم لا تحكي بعد ذلك قصة بالغة التعقيد. ولا شك في أن خط القص كان يشبه في بعض الأوقات حكايات "شرطة كي ستون" (أفراد الشرطة الخياليون غير الأكفياء في الكوميديات الصامتة لبدايات القرن العشرين)، حيث الأيدي الكثيرة، والمطالب المجنونة، والإشارات والفرص الضائعة. ومثل السمات الأخرى الكثيرة جداً للدبلوماسية العربية الإسرائيلية، كان يمكن على الأرجح إبرام هذه الصفقة في وقت أبكر بكثير.

الآن بعد أن تم ذلك ، ما الذي يعنيه هذا كله بالضبط؟ أولا، دعونا نتخلص من أي أوهام هنا: كانت صفقة شاليط مكتفية بذاتها؛ إنها لا تعرض مطلقاً مرحلة أولى من اتفاق سياسي أوسع نطاقاً بين إسرائيل وحماس، وهي ليست "الفصل الأول" من مسرحية ما، ذات نهاية سعيدة تفتح الطريق المسدود للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني.

سوف تكون أي خطة من هذا القبيل مجرد مفتاح لغرفة فارغة. فمع عدم وجود احتمال اتفاق في الأفق المنظور حول القضايا الكبرى بين رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لماذا يعتقد أحد بأن هناك مجالا للتسوية بين إسرائيل وحماس، هذه الحركة التي تمثل التجلي الديني للقومية الفلسطينية؟ وبالإضافة إلى ذلك، تبدو المنطقة فقيرة جدا باليقين في الوقت الراهن؛ ولا يبدو الإسرائيليون ولا حماس أو فتح مستعدين لخوض المخاطرات الكبيرة. أما مسائل الاستقرار، وتجنب الصراعات، والسعي إلى تحقيق أجندات أضيق في تلك البيئة التي يعوزها اليقين، فهي قصة مختلفة. هذا هو ما يقود هذا القطار. إننا أمام دبلوماسية انتقالية، وليست تحويلية.

بالنسبة لحماس، تنطوي الصفقة على الكثير من المنطق. فالمنظمة تصبح أقل شعبية بشكل متزايد في قطاع غزة بعد أن فشلت في تحقيق تحسين في الاقتصاد، أو حرية التنقل، أو الإعفاء من الضرائب؛ ولذلك أصبحت الآن في حاجة ماسة إلى رافعة. (تشير مشاهد سكان غزة وهم يحتفلون بصفقة المبادلة إلى أن ذلك قد نفع). وفي الحقيقة، يا له من وقت عظيم للتحرك. ففي الوقت الذي استولى فيه عباس على مركز المشهد في الأمم المتحدة بطرحه مبادرة الدولة الاصطناعية المليئة بالرموز، تقدم حماس مكاسب ملموسة في الوطن. ولا يمكننا مطلقاً أن نقلل من أصداء قضية الأسرى في المجتمع الفلسطيني، فهي هائلة، وسوف يمس إطلاق الأسرى هذا -وربما على مستوى أكبر من أي وقت مضى- الآلاف من أصدقاء وأفراد عائلات السجناء الذين سيفرَج عنهم.

وهناك أيضا مشكلة سورية، حيث كانت قيادة حماس في الخارج قد وضعت رحالها لبعض الوقت، حتى الآن -ولكن إلى متى؟ مع احتمالات اتجاه نظام بشار الأسد إلى الانحدار، تحتاج حماس إلى خيارات أخرى. فلماذا لا تتحرك أقرب إلى مصر حتى تؤمن رهاناتها؟ فبعد كل شيء، تظل القاهرة هي التي تحدد ما إذا كانت حدود غزة-فلسطين ستكون مفتوحة، وكان المصريون هم الذين توسطوا في هذا الاتفاق. وبعد فشل اتفاق الوحدة بين حماس وفتح -الذي توسطت فيه مصر أيضا- كان من المهم أن يعوض المصريون من خلال إنجاح الاتفاق الأخير. وكانت حماس تحت الضغط لمساعدتهم على ذلك.

يمكن فهم دوافع إسرائيل لإبرام الصفقة بشكل أبسط بكثير. فقد ظلت فكرة التصميم على استرداد الجنود الذين يُتركون وراءً في ساحة المعركة -أحياء أو ميتين- تشكل التزاماً عميق الجذور في الثقافة والتاريخ الإسرائيليين. كما أن إبرام الصفقة عمل مدفوع بالحسابات السياسية أيضاً، خصوصا بالنسبة لرئيس الوزراء الحالي. فقد أراد نتنياهو خلال فترته الرئاسية الأولى بشدة إطلاق سراح جوناثان بولارد؛ المواطن الأميركي الذي قام بالتجسس على قوات البحرية الأميركية لصالح إسرائيل، وقد مارس نتنياهو بهذا الخصوص ضغطا يصعب احتماله على الرئيس بيل كلينتون خلال مفاوضات قمة واي ريفر في العام 1998 مع الفلسطينيين. ولم يرجح كفة كلينتون على الأغلب سوى تهديد مدير السي آي إيه؛ جورج تينيت، بالاستقالة من منصبه في ذلك الوقت.

وبالإضافة إلى ذلك، ظل نتنياهو يرزح تحت ضغوط شعبية هائلة بسبب فشله في عقد صفقة لتأمين إطلاق سراح شاليط -وقد شن والدا الجندي الأسير حملة لا هوادة فيها في وسائل الإعلام لصالحه، مع إقامة مخيمات احتجاج رافضة، ومسيرات، ومهرجانات في مختلف أنحاء البلاد- رغم أن رئيس الوزراء نال على الأرجح بعض الدفعات السياسية من المؤسسة الأمنية للمضي قدماً في ذلك. لكن الإسرائيليين قدروا بكل وضوح أن الانتظار كل هذا الوقت عمل فقط على زيادة احتمال أن يفضي استمرار الاضطرابات في المنطقة والانقسامات داخل حماس إلى فقدان شاليط. وليس هناك شك بأن جهاز الشاباك قد شعر بالقلق من أن يكون شاليط قد أُخرج من غزة، بل وحتى ربما نقل الى إيران، بغض النظر عن كفاءة الأجهزة الاستخباراتية الإسرائيلية.

ولكن، دعونا نكُن واضحين. إن الصفقة لا تغير شيئاً تقريباً في الصراع الأوسع نطاقاً بين إسرائيل والفلسطينيين. ولو كانت هذه الصفقة قد شملت سجناء فلسطينيين رفيعي المستوى؛ مثل مروان البرغوثي، القائد السابق في حركة فتح الذي يتمتع بسمعة وطنية، أو أحمد سعدات، رئيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، لكانت لها أهمية أكثر بكثير. وكان إطلاق سراح البرغوثي سيشكل تحدياً مباشراً (وتهديداً) لقيادة عباس -وكان سيشكل جهداً واضحاً من جانب إسرائيل لتقسيم منظمة التحرير الفلسطينية التي يرأسها.

كلا، إن هذه الصفقة تعنى بالأعمال، والفترة -أعمال تحتاج كل من حماس وإسرائيل إلى إنجازها. ورغم أن الصفقة توضح إمكانية أن يقوم هذان الطرفان بإبرام صفقات معاً، ومن احتمال أنها تبشر بفترة من الاستقرار (حيث لا يريد أي من الطرفين الحرب)، فإنه ليس لها أي تأثير على السلام. وسوف يستمر النزاع الإسرائيلي الفلسطيني بالمضي في خطوه المرتبك مع احتمال ضئيل للدخول في مفاوضات جدية، ناهيك عن التوصل الى اتفاق ينهي الصراع.

أما بخصوص هذه الصفقة بالتحديد، فإن ما تراه هو ما ستحصل عليه: ثمة تنظيم استغل حالة جندي إسرائيلي مختطف إلى أقصى حد ممكن، وثمة حكومة إسرائيلية لا يمكن أن تكون قد أحبت إبرام مثل هذه الصفقة، لكنها اضطرت إلى إبرامها بعد أن وجدت بعض الأرضية المشتركة. وبشكل عام، نادراً ما عرضت القضية الإسرائيلية الفلسطينية إمكانية الاتفاق على أي شيء. ولذلك، اطو هذه المسألة الأخيرة وضعها في جيبك واربط حزام الأمان؛ فهذا الصراع مرشح لأن يصبح أسوأ بكثير قبل أن يسوء تماماً.

FORGEIN POLICY