تحفظات الشاعر الفلسطيني سميح القاسم على مسلسل في حضرة الغياب..

كشجرة شامخة وارفة الظلال... وكنهر يحفر مجراه في الصخر.. يغمرنا الشاعر سميح القاسم بظله الخفيف وتواضعه الكبير كلما أطل علينا في أمسية شعرية جديدة... ويحفر في غياهب قلوبنا لذة الاحساس بالحياة بكلماته الشعرية الصادقة والمتعطرة بالأمل والصمود والكفاح... حل بيننا في الأيام الأخيرة وقدم صحبة فرقة جذور الفلسطينية حفليين رائعين ضمن مهرجاني الحمامات وقرطاج الدوليين، تواشجت فيهما الموسيقى والشعر ..فحملتنا القصائد الشعرية والأغاني التراثية الفلسطينية الى حقول البرتقال بحيفا..وأغاني الحصادين بالبيادر.. ورائحة الزعتر البلدي.. وسجع الحمام.. وصرخة شهيد.. وضحكة امرأة غزاوية تطرز ثوب خيباتها وحصارها..
هذه المرة -على غير العادة- كان لقائي بالشاعر الكبير سميح القاسم في شكل دردشة سريعة وكانت أغلب الأسئلة حول ذكرى رحيل صديق دربه محمود درويش والحكايات والذكريات الكثيرة التي كانت تجمعهما.. وكان التطرق أيضا الى مسلسل "في حضرة الغياب" الذي يتناول سيرة درويش والضجة التي أثارها في الأوساط الفنية الثقافية بمجرد عرض حلقاته الأولى.. دون أن ننسى طبعا طقوسه الرمضانية الخاصة التي يمارسها في حضرة القصائد.. فتعالوا أصدقائي نكتشف كل ذلك في الورقات البسيطة التالية.
• هل لك طقوس خاصة في شهر رمضان أستاذ سميح؟ وماذا عن طقوس كتابة القصيدة والشعر في هذا الشهر هل تتوهج أكثر أم تنقص؟
- أتحفظ كثيرا هنا حتى لا يساء فهمي، رمضان شهر التنزيل وشهر الشعر ويجب أن نفصل بين التنزيل والشعر.لرمضان نكهة خاصة في كل أرجاء الوطن العربي.ومع التحولات العصرية في السنوات الأخيرة تحول رمضان من شهر صيام وتهجد وتواضع وتكافل الى شهر ولائم وحفلات صاخبة،ولكن الشعر بقي معافى في كل هذا والحمد لله.في الحقيقة لدي أكثر من قصيدة فيها ذكر لرمضان بالمعنى الأصلي ومعنى الطاقة المفتوحة في السماء وبمعنى الرسالة والتكافل الاجتماعي وبالنهاية فهذه الطقوس روحية أكثر منها شكلية،ولا أعتقد أن الطاقة الشعرية تلتزم وتتوهج في شهر دون أخر أو بيوم دون أخر ولكن من دون شك الشحنة الشعرية تزداد في الأشهر الحرم كما كان قبل الاسلام في رمضان وفي أذار شهر يوم الأرض...اذن الرزنامة تظل مرهونة بأحداث وذكريات ووقائع وأحلام وتثأثر بمضمون هذا الشهر أو ذاك دون شك.
- مرت منذ أيام الذكرى التالثة لرحيل صديق دربك محمود درويش، ولأننا لا نستطيع ذكر محمود درويش دون ذكر سميح القاسم،فكيف تذكر علاقتك به وكيف تعيش هذه الذكرى التالثة لرحيله؟
- علاقتي بحمود درويش مسألة معروفة وأنت ربما تعرف قوة هذه العلاقة أكثر من غيرك،ولكن في العام المنصرم حدث لي شيئا غريبا جدا، فعلا..فقد كان علي اجراء عملية جراحية...وقد فوجئت بالمستشفى يدعوني لاجراء هذه العملية في التاسع"9" من أب/أوت وهو تاريخ وفاة محمود درويش...وقد تركت هذه المصادفة في نفسي أثرا عميقا.
أنت تحدثني عن الذكرى التالثة لرحيل محمود درويش وأنا حقيقة لم أستوعب بعد هذا الرحيل وأكاد أشك في كل هذا.وفي حفل رأس السنة الأخير تذكرت أننا كنا نقضي معظم احتفالات رأس السنة معا..وقد ظبطتني زوجتي وأنا أطلب رقما،فقالت من تطلب؟وأصرت على أن تعرف،فقلت لها ان محمود يلعب لعبة التخفي ولم يمت وخيل الي أنني حين أطلبه سيرد وسيأتي ويسهر معنا ليلة رأس السنة،فصعقت زوجتي وتركتني في حالة بين الغيبوبة والوعي وبين الصحو والسكرة الروحية،حقيقة يصعب علي كثيرا أن أستوعب رحيل محمود درويش.
• هل هناك كلمة خاصة أو رسالة ما تريد تبليغها الى صديقك محمود؟
- حقيقة فقط أريد أن أقول له ان بعض الحمقى والجهلة يستغربون أننا كنا نختلف أحيانا حول موقف سياسي أو لوحة تشكيلية أو امراة او قصيدة..وأن من أسميهم عجائز زوربا الذين يسرقون الموتى ويسطون على أشيائهم وذكراهم،كثر اليوم، وكان سيضحك حين أقول له هذا الكلام ويقول:أعرفهم قبل رحيلي وبعد رحيلي.
• في نفس هذا السياق أستاذ سميح، كيف تحكم على مسلسل "في حضرة الغياب" الذي يتناول سيرة محمود درويش خاصة بعد الضجة التي أحدثها في الأوساط الثقافية بعد عرض حلقاته الأولى؟
- أولا ليس من حقنا أن نحكم على المسلسل قبل أن ينتهي.. ولكن طبعا أنا لدي بعض التحفظات على هذا العمل،فالمنتج والمخرج وكاتب السيناريو هم أحرار وليس ملزمين بأن يتصلوا بي،ولكن من أجل أن يكون عملا جيدا كان عليهم أن يتصلوا بي دون أي انسان أخر أو جهة أخرى..لأنه ليس هناك انسان يمكن أن ينصف أو يعرف محمود درويش أكثر مني وهذا أمر مفروغ منه...ودون شك أعتقد أن هناك تسرعا في انتاج المسلسل.ومن ناحية ثانية أنا أرفض الدعوة الى منعه من البث ومقاطعته..هي أيضا دعوة مستعجلة وغير مبررة لا فنيا ولا أخلاقيا ولا ثقافيا ولا سياسيا...وأستغرب من هذه الجهة التي تريد منعه من البث..يقال انها مؤسسة محمود درويش وبوصفي عضوا في ادارة هذه المؤسسة لم يطرح هذا الموضوع أمامي ولم نبث فيه كمؤسسة،وأنا أستغرب أن يكون هناك شخص ما في هذه المؤسسة يتخذ قرارا ما بهذه الخطورة دون الرجوع الى مجلس المؤسسة،بقدر ما أستغرب كذلك التسرع في انتاج المسلسل.ولأنني من ضحايا الرقابة وسجنت بسبب الرقابة على الأدب وصودرت كتبي بسبب هذه الرقابة..ولذلك فلا يمكن أن أقبل بدور الرقيب ولا يحق لأحد من أن يمنع مسلسلا من البث كائنا من كان.
وليس هناك أولى مني بالحكم على هذا العمل أو ذاك بشأن محمود درويش...ولا يوجد مؤسسة أو جهة انتاجية أو جهاز له الحق الأخلاقي والأدبي بأن يتطاول بهذه الفضاضة والفجاجة على ذكرى محمود درويش،لا من حيث الانتاج ولا من حيث معارضة الانتاج.ولذلك أدعو الى التزام الأخلاق واحترام ذكرى محمود درويش والتخطيط مستقبلا لما هو أفضل اذا كان هناك نية في انتاج عملا جيدا عن محمود درويش بعيدا عن صراع الديكة ولعبة المصالح التجارية والدعائية الضيقة والتافهة.
• هناك من يقول أن عدة أطراف كانت تمني النفس بالمشاركة في هذا العمل سواء بالكتابة او التمثيل، وحين وقع استبعادها قامت بافتعال عدة مشاكل لمسلسل "في حضرة الغياب"؟
- هذا ما سمعته من بعض الأشخاص أصحاب الصلة، كأن الصراع تحول الى صراع شخصي ومصالح ذاتية وأوهام اعتباطية وهذا لا يليق بمحمود درويش وذكراه ولا بالثقافة أيضا.
• وماذا عنك في هذا المسلسل، هل وقع الاتصال بك والتنسيق معك من الجهات الانتاجية المختصة في شأن من يقوم بدورك وتفاصيل العمل ككل؟
- فقط سمعت خبرا سئل فيه المخرج أو المنتج عن هذا الموضوع، فقال لقد اتصلنا بعائلة سميح القاسم، وأنا لا أذكر أن أحدا اتصل بعائلتي أو اتصل بي، ولا أصر أو أطلب أو اشترط ضرورة الاتصال بي فمن حق كل انسان أن يفعل ما يشاء... ورغم أن الأخلاقيات خدشت ومصلحة العمل كذلك، الا أنني أصر على أن من حق كاتب العمل والمخرج والمنتج والممثلين،في أن يفعلوا ما يشاؤون وهم ليس ملزمين لا تجاهي ولا تجاه أي جهة أخرى في العالم.
• عموما أستاذ سميح كيف تنظر الى هذه الأعمال الدرامية التي تتناول سيرة بعض الفنانين أو المبدعين أو الشعراء والتي كثر انتاجها في السنوات الأخيرة على غرار مسلسل أم كلثوم ونزار قباني واسمهان؟
- حقيقة شاهدت عدة حلقات من مسلسلات مثل نزار قباني وأم كلثوم واسمهان، لم أشاهد كل الحلقات وانما شاهدت كمية كافية للحكم بأن كل هذه الأعمال لم ترق الى مستوى هؤلاء المبدعين وتسللت الى حياتهم بكثير من الادعاء والأكاذيب والغرور والباطل والتهريج. مثلا في مسلسل "أم كلثوم" كأن ثورة الضباط الأحرار في 23 يوليو في مصر، ما كانت لتحدث لولا أم كلثوم ونحن نعلم أنها كانت من حاشية وأتباع النظام الملكي لذلك أقول إنه عيب تاريخي وأخلاقي أن تتحول أم كلثوم كأنها قائدة وملهمة الضباط الأحرار هذا يسئ لأم كلثوم والثورة والفن والثقافة.
• هنا تحضر المعادلة الصعبة التي تسعى الى تحقيقها هذه الأعمال:فهل حسب رأيك يجب أن تتطرق هذه الأعمال الى سلبيات وايجابيات هؤلاء المبدعين،أم يجب تجميل صورتهم والتركيز فقط على الايجابيات؟
- حسب رأيي لا يجوز تشويه الحقيقة التاريخية، الفنان أو المبدع ليس الاها ولا ملاكا، لديه سلبياته وايجابياته ومن دون شك يجب طرح الايجابيات والسلبيات مع احترام الحديث الجميل" اذكروا محاسن موتاكم" وهو حديث جميل جدا وراق وعميق.. اذكروا محاسن موتاكم دون مبالغة.. لاستمرارية العلاقة الانسانية لابأس في ذكر محاسن المبدعين الراحلين مع الاشارة الى مساوئهم ليس عيبا.
• أستاذ سميح هل أنت مع انتاج عمل درامي عن سيرتك الذاتية؟
أنا لست ضد اعادة قراءة السيرة الذاتية لأي انسان وأنا من هؤلاء الناس.وبالمناسبة أبشرك أن الجزء الأول من سيرتي الذاتية على وشك الصدور خلال شهر ربما وهو الجزء قبل الأخير بمعنى أنه يتوقف عند ما كتبته من مذكرات حتى سنة 2006 ،وليكمل الجزء الأخير من يشاء من بعدي.وأعتقد أن المذكرات والسيرة الذاتية التي يكتبها صاحبها ليست ملزمة،وليست بالضرورة هي الحقيقة الكاملة ويجب أن نأخذ هذه المسائل بعين الاعتبار.الانسان لا يمكن أن يكون موضوعيا بشأن سيرته،وأنا حاولت قدر الامكان أن أكون موضوعيا وأسجل ايجابياتي وسلبياتي في هذه المذكرات.
• الى أي مدى كنت صريحا مع نفسك في هذه المذكرات؟
- كنت صريحا الى حد بعيد في قضايا الوطن والسياسة، ولكنني تعمدت عدم الخوض في العلاقات العاطفية لأن مجتمعنا مجتمع محافظ ولهذا تجنبت الخوض في هذه المسألة مع يقيني أن هناك الكثير من الناس الذين ينتظرون رحيلي بفارغ الصبر حتى يكتبوا ما يشاؤون حقا وباطلا.
الأكيد أنه هناك الكثير من الأحداث والمفاجأت المتسلسلة في هذه المذكرات،وهناك أمور لم أدونها لأن بعض أصحابها أصبحوا في عداد الموتى والبعض الأخر مازالوا على قيد الحياة وهذا ما يخلق اشكاليات كثييرة..من الصعب الكتابة عن شخص رحل وهو غير قادر على الرد والتعقيب ومن الصعب أيضا أن تكتب كل شيء عن شخص مازال على قيد الحياة وقد تظلمه فيما تقول بغير وجه حق..ولذلك من دون شك هناك خطورة كبيرة، وقد أسميت هذه المذكرات " انها مجرد منفضة" وكأن الحياة منفضة نحترق ونترمد ونوضع في هذه المنفضة بانتظار حيوات أخرى تحترق كأعقاب السجائر لتوضع في هذه المنفضة.وفي النهاية كتابة السيرة الذاتية أشبه بالسير في حقل ألغام.
• ونحن نتحدث عن الأعمال الدرامية أستاذ سميح، هل قدمت هذه الأعمال الدرامية المنتجة بكثرة في السنوات الأخيرة،الاضافة المرجوة منها على الصعيد العربي؟وهل أنصفت الثقافة العربية وعرفت بها جيدا لدى الأخر؟ هل عرفت بالمبدع العربي وهل ناقشت قضايا مهمة ومصيرية تهم الأمة العربية،أم بقيت سطحية في أغلبها؟
- معظمها بقيت سطحية حسب رأيي وحتى المسلسلات التي تناولت التاريخ لم تتناوله بعمق وكانت أقرب الى التهريج أو الكذب والادعاء..هناك من يصنع فيلما عن عبد الناصر من وجهة نظر معادية ووجهة نظر موالية...ولذلك أعتقد أن الدراما العربية لم ترق بعد الى مستوى الدراما الحقيقية الراقية والنبيلة التي تطرح التاريخ بمنظور علمي صحيح.
أنا أرى عموما أنه اذا نجحت الرؤية فسينجح العمل الفني الدرامي مهما كان موضوعه ولابد أن يكونا كاتب العمل ومخرجه مثقفين حقيقين حتى ينجح هذا العمل ويصل الى أكبر شريحة من الجمهور.
العرب أون لاين