تشرين

 

في المتحف البريطاني الذي ربما كان الأغنى في موجوداته في العالم, هناك ركن انتصب فيه قفص زجاجي أودع فيه هيكل عظمي لامرأة وقد قطع الرأس منها عن الجسم ووضع على الأرض إلى جانب الهيكل العظمي، وتحت القفص كلمة كبيرة كتب عليها مجرم.

هذا الهيكل العظمي هو لجان دارك الفرنسية التي قاومت الاحتلال الإنكليزي واستطاعت تحريض الملك الفرنسي على المقاومة، بل استطاعت جمع رأي الفرنسيين على الوقوف ضد البريطانيين المحتلين، ولكن ملحمتها انتهت بالقبض عليها ومحاكمتها وإعدامها، ثم حمل جثتها الذي سيصبح هيكلها العظمي والتشهير به في المتحف البريطاني للإنسان وهو يحمل اسم مجرم. ‏

هذا السيناريو الخيالي الفظيع والذي سينكره القراء جميعاً بعد قراءة السطور السابقة، فالإنكليز لم يشهروا بجثة جان دارك ولم يحملوا هيكلها إلى المتحف البريطاني لعرضه كاستعراض لانتصارهم المؤقت على المقاومة الفرنسية، فهم قد أحرقوها، ولكنهم لم يهينوا ذكراها بوصفها بكلمة مجرم. فيما بعد سيقوم الشعب الفرنسي والكنيسة الكاثوليكية بتقديسها وجعلها قديسة. ‏

هذه المقدمة كلها أقدمها لأجعل القارئ يقيم المقارنة بين جان دارك، والمناضل السوري سليمان الحلبي. ‏

فمن هو سليمان الحلبي؟ ‏

الحق أن الفضل في كتابة هذا المقال كان لابني الذي سألني قائلاً: آلاف من السوريين يوقعون عريضة يرفعونها إلى القيادة السياسية في سورية، وإلى القيادة السياسية في فرنسا يطالبون بإعادة جمجمة سليمان الحلبي المعروضة في متحف شايو وقد كتب تحتها بخط عريض مجرم.... وهذا مخالف للشرائع والقوانين الدولية، فسليمان الحلبي لم يمض إلى فرنسا ليقتل الجنرال كليبر قائد جيش الغزو الفرنسي الذي احتل مصر بقيادة نابليون بونابرت، ثم حاول احتلال الشام، ولكن عكا بقيادة عبد الله الجزار استطاعت الوقوف شوكة في حلق بونابرت، فأفشلت خطته في احتلال الشام، بل الجنرال كليبر هو من اعتدى على أرض مصر واحتلها تحت قيادة بونابرت. ‏

لن أدخل في تفاصيل السياسة، وهل كانت غزوة نابليون نعمة أم نقمة فهذا خارج عن السياق، وربما كان هذا من ديالكتيك التاريخ، ولكن حديثي سيكون منصباً على هذا الشاب من عفرين المجاورة لحلب، أو من حلب نفسها ومن عائلة ونس المعروفة في حلب، والذي مضى ليتعلم العلم المعروف في الشرق المسلم في ذلك الحين، وأعني في الأزهر، فشاهد القسوة العسكرية الفرنسية وتدميرها لجامعة الأزهر، وقتلها للمشايخ والمواطنين الأبرياء، وهو لم يدع لرؤية الاكتشافات الكيميائية في المخابر الفرنسية كما دعي الجبرتي، وهو لم يقرأ منشور نابليون والذي ادَّعى فيه الإسلام وسمى نفسه عبد الله، وهو لم يقرأ كتاب أو موسوعة وصف مصر، ولم يتعرض إلى شامبليون الذي سيعثر على الحجر في رشيد والذي يحمل نصوصاً إغريقية وديموطيقية وهيروغليفية. هذا الحجر الذي سيكون مفتاحاً لقراءة التاريخ المصري عبر قراءة اللغة الهيروغليفية. ‏ ولكنه رأى جحافل الجند تهاجم الجامع ـ الجامعة الأزهر وتحرقه، ورأى جثث المدافعين تملأ الشوارع، ورأى شيوخه يعدمون لتحريضهم على المقاومة ورأى ساري عسكر أو قائد الجيش بونابرت يرحل مهزوماً على سفينة متخفياً بعد تدمير أسطوله في أبو قير، فرأى سليمان أن قتل ساري عسكر، أو قائد الجيش كليبر سيسرع في طرد الجيش المحتل. ‏

أنا أعرف أن هناك روايات كثيرة عن سبب قتله لكليبر، ولكنها كلها لا تهمني بقدر ما يهمني أنَّ هذا الشامي انتصر لأهله في مصر، وأقدم برباطة جأش على طعن كليبر بست طعنات ولما تدخل كبير المهندسين لإنقاذ رئيسه طعنه وهرب واستنفر الجيش الفرنسي وحاصر المنطقة فقبضوا على الشاب سليمان متخفياً في بستان مجاور، و لايزال لسذاجته يحمل الخنجر القاتل، فقبضوا عليه، وحاكموه، وحاكموا جيرانه في رواق الشوام في الأزهر وأعدموا الجميع لأنهم لم يبلغوا السلطات الفرنسية بنية سليمان الحلبي.

 نعم لقد أحرقوا يد سليمان القاتلة وهو حي، ثم خوزقوه وتركوه يتعذب وينزف لأربعة أيام حتى أشفق عليه جندي فرنسي، فسرب إليه كأساً مسمومة مات على إثرها. ‏

هذا المناضل الحلبي، ألا يستحق رفع رقعة المجرم عنه كما رفعناها عن جان دارك وإعادة بقاياه إلى وطنه سورية لتضيفه إلى مفاخرها. ‏

أنا خيري الذهبي أضم صوتي المتواضع إلى أصوات السوريين جميعاً الذين يريدون إعادة جدث ابنهم سليمان الحلبي إلى أرض الوطن.

ونرجو أن تلقى من الفرنسيين الذين أنجبوا روسو وديدرو ومونتسكيو وبلزاك وبروست وسارتر أذناً مصغية تعيد الحق إلى نصابه والشهيد إلى أهله. ‏