تعالي أقولك... لازم أقولك.....!

هيــــــــام حموي. البعث
"تعالي أقولك".. يغني العندليب فرِحاً، ويهزّ رأسه طرباً ومرحاً...
"حتقول إيه؟.." تجيبه النجمة الدلوعة بفضول لطيف ومصطنع، وكأنها لا تعرف إلى أين يمكن أن يصل الحوار بين الطرفين المتنادمين، في مشهد حفظته الذاكرة السينمائيّة بالأبيض والأسود، منذ منتصف سنوات الخمسينات، في فيلم سينمائي يخلّد فكرة الوفاء الإنساني عبر حدوتة صغيرة، ينتصر في ختامها الخير على الشر، والإخلاص على الخيانة، كما تعطي التضحيات في النهاية ثماراً عذبة يانعة، ويخرج المُشاهد من القاعة المعتمة، وقد ارتاحت أساريره بعد التوتّر الشديد الذي انتابه وهو يتساءل بقلق: هل من المعقول أن يتخلّى أبطال الحكاية عن مبادئهم ومثلهم العليا، وأن ينجرفوا إلى حيث يحاول "قدرٌ أحمق الخطى"، أن يقودهم بوحي من الغرائز البدائية، هذا إذا لم نشأ أن نلقي باللوم على الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدورهم كما في صدور غيرهم من الناس، أن ابتعِدوا عن الطريق السوي وستكافئكم قوى الظلمات خير مكافأة.
ما يحدث للمشاهد من توتر قبل الانفراج بحلول النهاية السعيدة، كان في صلب فن المسرح الإغريقي، حيث شرح الفيلسوف اليوناني أرسطو ظاهرة التحرّر من الانفعالات ("كاتارسيس" cataharsis) التي تحدث أثناء عرض الأعمال التراجيدية، بلفت الانتباه إلى أن هذه الظاهرة تلعب دوراً نفسياً علاجياً تطهيرياً من خلال التنفيس عن المكبوت في أعماق العقل الباطن.
غير أن قواعد اللعبة تبدو وكأنها خرجت عن مسارها الطبيعي، ذلك أنّ نسبة كبيرة من المتفرّجين أو المشاهدين لم يعودوا ينتظرون النهايات السعيدة للعروض التي يتابعونها، بعد أن اختلط الأمر عليهم بين الواقعين، الملموس والافتراضي، فيما راح معظم خبراء علم الاجتماع يكيلون اللوم على الوسيلة التلفزيونية ومشتقاتها من ألعاب الكترونية وصفحات انترنت وشاشات أجهزة موبايل، لأن هذه الألواح الزجاجية، وإن تفاوتت أحجامها، باتت تشكل جداراً عازلاً بين ما نرى وحقيقة ما يجري.
سواء أكان الضحايا حقيقيين أم كان الجنود في اللعبة افتراضيين، تراهم عيني يتساقطون، والدمُ يُراق هنا وهناك، والجهاز أمامي أو بين يديّ، لكن يدي تظل نظيفة، وإن تلطّخت الروح، ولا عودة إلى البراءة.
عقولٌ كثيرة انتابها الشلل منذ ذلك اليوم الذي قرّر مهاجمو العراق الأميركيون، في مطلع العام 1991 أن يصطحبوا في "نزهتهم الحربيّة" مصوّري أولى الفضائيات التي عرفها الإعلام المعاصر، فتسمّر المشاهد المشدوه أمام الشاشة وصار طرفاً سلبيّاً في معركة ينتمي فيها دون أدنى شك إلى صفوف الخاسرين، لأنه يخسر جزءاً من إنسانيته.
هذا مُدافع عن بلاده، يخسر، أمام عيني المشاهد، منزله الذي ينهار فوق رأسه، قبل أن يخسر روحه، وهو يتنفّس الدخان ويبتلع جزءاً من التراب الذي سيبتلعه بدوره بعد قليل، فيما المشاهد جالس في موقع آخر من الوطن ذاته، مستريحاً على أريكة مريحة، وربما كان يحاول تجاوز إثارة المشهد ببعض التسالي من "شيبس" إلى موالح وبعض المشروبات "المنعشة واللذيذة والفوّارة"، حسب المصطلحات الإعلانية المروِّجة لهذه المواد المساعدة على ابتلاع ما "لا يجوز ابتلاعه".
في اليوم التالي، يأتيك هذا المتفرّج في حالة اكتئاب واضح ويأس ظاهر وخمول فادح لأنه لم ينم طيلة الليل بسبب المَشاهد المؤلمة التي أرّقته، فظل ساهراً يتنقل من قناة إلى قناة، ويتعلّل بكل ذلك لكي لا ينجز عمله، "لأن ما يجري غير معقول، يا زلمة!!!"..
والحل؟؟؟ الحل أن يعتذر عن أداء المهام والواجبات، ويعود إلى الأريكة إياها أمام الشاشة إياها بحجة أنه مرهق ومتعب، وتبدأ الحكاية من جديد، ليلة بعد ليلة. وإذا حاول من حوله التحدّث إليه يسكتهم لأن ما يشاهد أهم من الحوار مع المحيط...
السيناريو تكرّر ملايين المرات منذ 1991، رأيناه في حصار جنين 2002، في سقوط بغداد، وفي خروج رئيس عربي من حفرة في الأرض2003، في ضرب بيروت 2006، إلخ...
متى سيصحو المشاهد "إكس" من إدمانه البصري، ليتذكّر حواسه الأربع الأخرى، وأولها السمع، فيستمع إلى الأغاني المصنوعة أصلاً للسمع وليس للبصر، وينتبه إلى أن هناك من يريد أن يحاوره، فيردّد مع العندليب والدلوعة "دويتو" "تعالي أقولك"...؟ دعوة من القلب للحوار...