تعليم الجموع وصناعة السجق

خيري الذهبي - السفير
في العام 1951 توفي المربي الفلسطيني أحمد سامح الخالدي الذي كان حظه أن يشهد في عمره القصير نهاية الدولة العثمانية التي خدم في جيشها أثناء الحرب العالمية الأولى ثم كان حظه أن يشهد العهد الاستعماري البريطاني، ثم يمتد به العمر حتى يرى سقوط فلسطين في أيدي الصهاينة، وكان ككل أبناء جيله يأمل في أنَّ العتمة الصهيونية هي غيمة عابرة وتنقضي لتعود فلسطين إلى أهلها، ولكنه سيتوفى من دون أن تكتحل عيناه بهذا الفرح.
تكمن أهمية الخالدي العظيمة والتي ذكرتني به هذه الأيام في رؤاه التربوية المنطلقة من مبدأ مختلف عما ساد العالم العربي بل العالم الثالث ـ وخاصة الثوري أو مدعي الثورية منها ـ في أهمية التعليم المجاني حتى الجامعي، وتعليم الجموع تعليماً متساوياً لا يسمح للمتفوق فيهم أن يظهر كفاءاته، بل هو في كثير من الأحيان تسئمه المدرسة التي سيقلب كتبها الموحدة في الأسبوع الأول من المدرسة ليقضي بقية العام يتثاءب وهو يراقب التلاميذ الآخرين يكدون في مقارعة علم أكبر من طاقتهم، أو في دراسة موادَّ لا يحبونها، ولكن المجتمع كله يطاردهم في وجوب الحصول على الشهادة العالية التي ستخرجهم من حضيض الفقر وعبودية الأرض والحاجة، وتدخلهم في عالم أبناء المدينة المرفهين حيث الكهرباء التي كانت حكراً على المدينة، والمياه النظيفة والمتع التي لا تنتهي، وربما كان من أجمل نماذج الأدب التي تعرضت لهذه الفترة في سورية هي ما كتب هاني الراهب في النصف الأول من روايته الوباء وفيه يلاحق أولئك الريفيين الذين يصارعون العلم بصماً وحفظاً حتى يحصلوا على الشهادة الثانوية السحرية التي ستصل بهم إلى أبواب الكلية الحربية الأمل والرجاء في تغير الحياة وإدارة الظهر نهائياً للأرض ورهقها ونهكها وعدم مردوديتها، في هذه الرواية يتابع هاني أسرة يتفوق ابنها ويدخل الكلية الحربية ويتخرج ليصبح الضابط الكبير البعثي المتنفذ جداً في البلد ثم يتابع أبناءه في تحللهم وتحولهم إلى أبناء مدينة في علاقاتهم العاطفية الكثيرة وتدخينهم الحشيش وانحلالهم حسب رؤية الأب الضابط المنشغل عنهم في عقد الصفقات وقبض العمولات والانغماس في لعبة الثراء الجديدة وبيع الأراضي هذه التجارة الجديدة التي لم يكن الفلاح يعرفها أو يقاربها.
أحمد سامح الخالدي الذي ولد في القدس وتلقى تعليمه في الكولونية الأميركية في القدس، ثم تابعها في مدرسة المطران بالقدس (مدرسة سان جورج) وأنهى دراسته الجامعية في كلية الصيدلة في الجامعة الأميركية في بيروت العام 1917، ونال درجة أستاذ في العلوم، ثم التحق بالجيش العثماني ولما انتهت الحرب عاد إلى فلسطين التي صارت تحت الاحتلال البريطاني.
في العام 1920 عينته السلطات البريطانية مفتشاً للمعارف (التربية والتعليم) في محافظتي يافا وغزة، ثم عين مساعداً لمدير المعارف العام، ثم مديراً لدار المعلمين في القدس 1925. وفي هذه الفترة أي من العام 1925 ـ وحتى 1948 قدم الخالدي أعظم ما لديه من خبرة اكتسبها في التربية أعني النظام التعليمي الخاص به والذي ركز على اختيار الطلبة المتفوقين والاعتناء بهم وفرزهم عن الجموع أي عن الأوساط وما دون الوسط وقد أثبَتت هذه النظرية جدواها في تخريج أفواج من الأدباء والمثقفين والأعلام الذين التصق اسم فلسطين بهم. ومنهم إحسان عباس، وتوفيق صايغ، وجبرا إبراهيم جبرا، وخيري حماد، وذوقان الهنداوي، وعبد اللطيف الطيباوي، وناصر الدين الأسد، ونقولا زيادة، ومحمد يوسف نجم، ووليد عرفان، وكثيرون آخرون.
ومن آراء الخالدي التربوية أن ديموقراطية التعليم مضيعة للوقت وما تعليم الجموع تعليماً متساوياً موحداً في كتب معدة سلفاً والنظر إليهم كما ينظر البستاني إلى مرج العشب لا يهمه منه إلا أن ينمو فمصيره كما سيعلن القادة الذين سينبثقون عن مروج العشب هذه هو خدمة الوطن، وما خدمة الوطن في رأي هؤلاء القادة إلا خدمة الجيش وخدمة القائد ـ السلطان ـ المحرر أو الأخ الكبير، والخالدي يرى أن صرف اهتمام متساو لجميع التلاميذ من دون تخصيص النابهين منهم بعناية فردية كل على حدة هو عبث لا طائل منه، وهو مضر بالتعليم، ثم يصل إلى نهاية أطروحته حين يعلن أنَّ التعليم الثانوي لم يجعل أصلاً لجميع التلاميذ، ولم يمتد العمر بالخالدي ليرى الجامعات متخلفة التعليم التي يجتمع فيها للفصل الواحد الألوف من الطلاب الذين لا يعرفون الأستاذ ولا يعرفهم وما الجامعة لهم إلا امتداد للمدرسة الثانوية المنبثقة عن مدرسة محو الأمية.
وكان الخالدي يأخذ على التعليم الأميركي في بدايات القرن العشرين وقبل السبق السوفياتي الذي أرسل أول قمر صناعي إلى الفضاء ليعرف السياسيون، ثم المربون الأميركيون أي خطأ ارتكبوا في تعليم الجميع علماً موحداً لا يفرق بين النابهين والمتوسطين و... المتخلفين، فالسباق واحد والشهادة أو الامتحان النهائي هو نهاية السباق، فيعدِّلون في مناهجهم ويركزون على المتفوقين لنرى هذه القفزة العلمية الهائلة لديهم، وكان الخالدي يرى أن هذا النوع من التعليم، أو الديموقراطية الزائفة هو تقصير بحق النابهين وظلم لمن كانوا دون المتوسط في الذكاء.
كان التعليم في العالم العربي قد انتقل على يد محمد علي من التعليم في الحلقات... الأزهر ـ جامع الزيتونة ـ القرويين، وفي هذا النوع من التعليم كان هناك علاقة حسبة وسبر يومي من المعلم للتلاميذ فيه يعرف النابه، والمتخلف وبيت الشعر الشهير الذي قاله الشيخ لتلميذه طالباً منه إعرابه:
إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع ففهم الطالب وانصرف عن طلب العلم ليبدأ طريقاً آخر للحياة إلا البرهان على الاهتمام اليومي للمعلم بكل تلميذ على حدة.
جاء محمد علي وكان أمياً، ولكنه كان مبهوراً بالإنجاز الفرنسي بعد الثورة وببطله بونابرت. وكانت الملكية قد عادت إلى فرنسا، فطاردت ضباط نابليون وعلماء الثورة. فاستقدم عدداً من الضباط لتدريب جنده وكان من أشهرهم الكولونيل سيف الذي سيسلم ويصبح اسمه سليمان باشا الفرنساوي، ثم أدرك كما أدرك ضباطه الفرنسيون أن التطوير العسكري الجاد في حاجة إلى مهندسين وإلى علماء رياضيات، فاتجه إلى نقل العلم وهكذا استورد مناهج البولي تكنيك الفرنسية ومعلميه وأسمى هذا المنهج المهندس خانه.
كان هذا الاستيراد أعظم ما فعل محمد علي فخريجو المهند سخانة هؤلاء هم من سيكون منهم الباحثون والمستكشفون الذين سيكشفون أفريقيا الداخلية حتى الكونغو وهم من سيصنعون الخرائط ويصممون الأقنية والسدود في الصومال وأرتيريا وجنوب السودان، وهم من سيشكلون الجمعية الجغرافية المصرية التي ستنافس ولو شرقياً الجمعية الجغرافية الملكية البريطانية.
هذا المنهج التعليمي العظيم الذي خَرَّج الفلكي الهام محمود باشا الفلكي، ومحمود خير الله، وعلي باشا مبارك، ومختار باشا، هذا المنهج لم يلبث خلفاء محمد علي أن أهملوه، وهكذا تهافت الجيش المصري بعد إنجازاته الرائعة وإهمال الولاة من أحفاد محمد علي له حتى كان الاحتلال البريطاني فكان أول ما فعل البريطانيون، أن حلوا الجيش المصري ككل، وألغوا المنهج التعليمي المهند سخانة وكلفوا المستشار التعليمي الجديد دنلوب بصنع منهج جديد، فتخلى عن المنهج الأزهري المباشر وعن المنهج الفرنسي المخبري التجريبي ووضع منهجاً يغفل العقل والتجريب والمخبر ويكتفي بالحفظ والبصم وتشغيل الذاكرة ولا شيء آخر، وكان المطلوب من المتعلمين أن يكونوا كتبة في الدواوين Clerk"s ـ ولا شيء آخر، وهذا ما تم لسنوات ما بعد الاحتلال البريطاني.
أما في سورية فقد قام بعض السوريين من المتحمسين فأحرق بعضهم الكتب الفرنسية انتقاماً من العهد الاستعماري بعد الاستقلال، وكان عدد كبير من المعلمين الفرنسيين وربما من السوريين قد قاموا بمغادرة سورية مع جيش الاحتلال وهكذا قفز إلى واجهة وزارة المعارف فراغ كبير في المعلمين لم تلبث مصائب قوم عند قوم فوائد أن ملأته حين وقعت كارثة ضياع فلسطين في العام 1948، فهاجر إلى سورية عدد كبير من متعلمي فلسطين وكانت اللغة الإنكليزية منتشرة بين متعلمي فلسطين، فملأوا الفراغ الذي حصل في المدارس، ثم استعانت وزارة المعارف السورية بالمعلمين المصريين، فجاؤوا ومعهم منهج دنلوب البصمي، مهمل العقل والتجريب والمحاكمة في أواخر الأربعينيات والخمسينيات، وكانت سورية تشهد قفزات هائلة في الزراعة في إقليم الجزيرة المصنع زراعياً على يد شركات زراعية كمعمار باشي وأصفرُ ونجار، ونظام الدين. وقفزت الزراعة قفزة جعلت الميزان التجاري رابحاً بشكل كبير، أما في المدن الرئيسة وأطرافها فقد قامت الصناعات التحويلية بتشغيل وتدريب آلاف العمال. وكانت الثورة الصناعية الأهم على مستوى المنطقة في صناعة الأقمشة والملابس والكونسروة... إلخ، وكانت المضادات الحيوية قد اكتشفت وعلى رأسها البنسلين فتوقفت وفيات الأطفال أو كادت وكان الجميع ينظرون إلى سوريا على أنها القفزة الاقتصادية الكبرى في المنطقة، ولكن التعليم الدنلوبي الذي انتقل مع المعلمين المصريين إلى السوريين كان يقف عقبة دون الإبداع.
فجأة قطع هذا الاندفاع وأنا أعتقد أنه واحد من نتائج منهج دنلوب التعليمي الانقلابات العسكرية، ومن يقرأ سيرة هؤلاء المنقلبين سيحار بين أقوالهم وأفعالهم. فأقوالهم كانت تساير الموجة العالمية التي سرت في العالم الثالث منذ النصف الثاني في القرن العشرين في الاشتراكية، والإصلاح الزراعي و... التعليم المجاني ويحار بين أفعالهم في العجز عن الانتقال من الإنشائية اللغوية إلى العمل الميداني.
فإذا ما عدنا إلى منهج تعليم الجموع في التعليم المجاني على الطريقة الدنلوبية سنجد أنه يصل بالطالب إلى محو الأمية على أكثر من مستوى، ولكنه يقف فجأة دون إدخاله في الحداثة، فالحداثة تقتضي وجود المخابر والأبحاث والدراسات الشخصية المكثفة لتشغيل مخ الطالب إن في المخبر، أو في الجامعة التي تطلب منه القيام بالدراسات ومنهج دنلوب يمنع هذا البحث ويكتفي بالحفظ ولذا فقد صار التعليم المجاني المصدر الأساسي لصناعة البعث في العالم... ولنتوقف قليلاً عند كلمة البعث هذه، فما البعث. إنه شهوة العودة إلى الماضي من دون الانتقال إلى الفعل، فالرجوع إلى الماضي الحق يعني التنازل عن كثير من منجزات الحضارة الحديثة لذلك ظلّت العودة إلى الماضي حلماً رومانسياً من دون إنجاز، والبعث يعني أيضاً الوقوف أمام باب الحداثة من دون فتح هذا الباب والدخول فيها أي التشارك مع العالم في كل شيء، وهذا الوقوف يعني جعل الماضي لوحة ربما تأملناها في حب.... فقط، من دون عبادتها.
هذا الوقوف المتردد بين ماض مشتهى متوقف عند حدود الشهوة ومستقبل مخيف من دون الجرأة على طرق بابه، هو ما صنع البعث في كمبوديا بول بوت وصين ماوتسي تونغ والذي ثار الصينيون عليه بعد وفاة ماو وقرروا الدخول في الحداثة. ولو عبر باب التكنولوجيا. أما في سوريا فقد حولوا الأمر عملياً إلى شعارات الماضي السعيد الذي يشتهون استعادته، و... توافق مع الواقع الحقيقي الذي يعيشه البلد ضمن حكم عسكري مقموع حتى عن العسكرة ضد العدو المعلن على الحدود الجنوبية للبلد.
هذا التمزق بين شعار حلمي لا ينجز، وواقع براغماتي معاش جعلهم يحولون التعليم الذي اعتمد مبدأ تعليم الجموع ليصبح التعليم إنجازاً في حد ذاته وليس طريقاً إلى التطور ودخول العصر، فحولوا التعليم إلى ما يشبه آلة صناعة السجق، إنها تفرم كل ما يقدم إليها من أفخر اللحم وحتى الشخت والجلود والغدد والغضاريف. إنها تبلعها وتفرمها وتحيلها إلى سجق لا فارق بين إصبع وإصبع منها، فالكل سجق!
ثم لم يكتفوا بتحويل الجيل القادم إلى هذه العجينة التي قتلت كل صفة فردية في الأولاد قبل دخولهم المدرسة، فما لبثوا أن استخدموا الديماغوجية الرقمية حتى في هذا القطاع لتحويل التلاميذ إلى مريدين للحزب وإلى انتهازيين يحاولون دائماً الانزلاق بين طوابير الطلاب النظاميين للوصول إلى الصفوف الأمامية من دون وجه حق، فقد صدر قرار يعطي للمتقدمين إلى الشهادة الثانوية والذين تسابقوا في استماتة للوصول إلى العلامات العليا للحصول على فرصة الدخول إلى الكليات المربحة مستقبلاً والأرقى في التقويم الاجتماعي أعني الطب والهندسة، وربما كان الفارق بين المحظوظ وغير المحظوظ في هذا السباق علامة واحدة، فأعطوا لمن يقفز بالمظلة إكراماً لرفعت الأسد عشر علامات ليتفوق فيها على المتسابقين الآخرين. ثم أمعنوا في ازدراء شروط تكافؤ الفرص فأعطوا عشر علامات لمن يؤدي دورة في منظمة شبيبة البعث، وهكذا ضاع تكافؤ الفرص وبدأ إحساس الطلاب بالخسارة والحسرة والظلم في تفضيل الموالين للنظام على الطالب الملتزم بالعلم فقط.
وفجأة، وبعد تأجيل طويل سمحوا بعد وفاة الرئيس السابق حافظ الأسد بإدخال الكومبيوتر، ثم... الانترنت، ثم أجهزة الهاتف الجوالة، طبعاً بعد انتشارها الكبير حتى في العالم العربي، وأذكر أني دعيت لإلقاء محاضرة في عمّان في الأردن في أوائل تسعينيات القرن الماضي، وفي صباح يوم المحاضرة اتصل بي القائمون على الدعوة يسألونني إرسال المحاضرة ليطبعوها ويوزعوها، فطلبت منهم إرسال من يأخذها ولكنهم رجوني إعطاءها لقسم الاستقبال، فأعطيتها لقسم الاستقبال لأفاجأ بعد ربع ساعة بموظف الاستقبال يعيد إليَّ المحاضرة فأسأله مندهشاً: أرسلتموها؟ فقال بعادية: طبعاً، وأسأله مستغرباً كيف؟ ليقول بالبراءة نفسها: بالفاكس! وأسأل نفسي بعد رحيله ثم أصدقائي في عمّان: ما الفاكس؟ ثم أصابني الخجل المريع، أنا القادم من دمشق العريقة لا أعرف ما الفاكس!
في الصين حطموا جدار الثورة الثقافية ودخلوا العصر تكنولوجياً، وفي العالم العربي حاولوا طويلاً لف البلاد بقميص من جص معلنين أنه أقيم لحماية الناس من الأذى، فلا بعوض يلدغ ولا برد يصيب بالرشح، ولم يبالوا بتقليص العضلات المهملة وربما موتها.
ولكن التاريخ لا يتوقف، فقد أخطأوا وسمحوا بالتواصل عبر الإنترنت، الفيس بوك والتويتر واليوتيوب... إلخ.
وأخذ الشبان في اكتشاف أنفسهم وعضلاتهم ولو تحت قميص الجص فبدأوا في التململ يريدون الخروج من قميص الجص الحامي من البعوض والواقي من الأفاعي وما إن حاولوا... حتى سقط منهج دنلوب في تعليم الجموع لقد دخل الجيل الجديد عصر ما بعد دنلوب.
وفي حديث لي مع بعض الشبان اكتشفت أنهم لا يقرأون صحف الآباء ولا يستمعون إلى إذاعاتهم ولا يكترثون بوزارات إعلامهم واتحاد كتابهم، لقد أداروا ظهورهم لكل ذلك الماضي وقرروا إنهاء المراوحة ما بين الماضي والمستقبل ليدخلوا الحداثة، وأثبت أحمد سامح الخالدي بعد حوالى قرن أنه كان على حق، فالتعليم الحق هو تعليم الفرد حسب كفاءاته، لا حسب ماكينة صنع السجق.