تقليص هامش الحريات.. ماذا بعد؟

 

تزامنت الأحداث، التى عصفت بصحيفة الدستور مع إلغاء بعض البرامج الحوارية والإعلان عن وضع قيود جديدة على رسائل المحمول الإخبارية، فتشكلت لدى الكثيرين قناعة بأن هناك خطة منظمة لتقليص ما صار يطلق عليه «هامش الحريات»، عشية الانتخابات البرلمانية والرئاسية.

وإذا صح وجود مثل تلك الخطة، يصبح الأمر بالغ الغرابة والغموض. فما جرى حتى الآن يرجح أن أصحاب الفكرة ومنفذيها لم يفكروا فيما هو أبعد من تحت أقدامهم. فهم شرعوا في تنفيذ خطة راقت لهم قبل التفكير جديا في أبعادها المختلفة. فمن الواضح أنهم لم يدرسوا جيدا نتائجها المتوقعة ولا حتى حددوا الهدف النهائي من ورائها.

 فما هي يا ترى الصورة التي يريدون أن تكون مصر عليها بعد تنفيذ خطتهم، وأنا هنا لا أقصد حال الإعلام نفسه فقط وإنما حال المصريين عموما وتفاعلهم مع ذلك الإعلام؟ هل الصورة التي في أذهانهم هي العودة بالمصريين إلى الاعتماد على الإعلام الرسمي؟ أم هى خلق حالة- للاستهلاك الدولي- يكون فيها الإعلام الخاص موجودا من حيث الشكل، ولكن بعد أن يتم ترويضه تماما يصبح كالإعلام الرسمي؟ إذا كان هذا فعلا هو الهدف النهائي يكون أصحاب الفكرة يعيشون في عالم آخر غير الذي صار مفتوحا على مصراعيه للمعلومات بل يعيشون –وهو الأهم- في بلد آخر غير مصر التي لم يدركوا حجم التحول الذى حدث فى المجال العام فيها.

فخلال السنوات القليلة الماضية، لم يتغير فقط حجم المعلومات التي يحصل عليها المصريون وإنما تغيرت نوعيتها أيضا. وحين تتغير المعلومات كماً ونوعا يتغير نوع الأسئلة التي ينشغل بها الناس ويتولد لديهم طلب على أنماط جديدة من الرؤى والأفكار والخطابات السياسية والاجتماعية.

وكل ذلك يخلق مع الوقت وعيا جديدا لدى المواطن العادي. ففى حالة مصر، اكتشف هذا المواطن أن العمل الإعلامي يمكن أن يدار بطريقة مختلفة. فالخبر الرئيسى للصحيفة ليس بالضرورة مساحة لابد أن تظل محجوزة لأخبار رئيس الدولة، والبرامج الإخبارية يمكن أن تتصدر عناوينها أخبار أناس يشبهونه يحتجون على ظروفهم المعيشية لا بالضرورة أخبار الوزراء والأخبار الدولية. وقد وجد هذا المواطن نفسه إزاء عالم من الأفكار والرؤى بل قائمة طويلة من الرموز والشخصيات العامة التي اكتشف أنها كانت موجودة طوال الوقت ولكنه لم يكن يعرف أصلا بوجودها. وفي كل ذلك، قارن المواطن وكون بنفسه حكما على مصداقية ما يتلقاه من وسائل الإعلام المختلفة.

بعبارة أخرى، تغير المجال العام ليس لأن الناس وجدت أمامها صحفا وقنوات تليفزيونية بديلة للإعلام الحكومي وإنما لأنها أدركت أن هناك بدائل للطريقة التي يدير بها الإعلام الحكومي الأمور. لذلك، فإن اختفاء صحيفة أو تهجينها لن يغير ذلك الإدراك ولا يعنى أن يعود المصريون للإعلام الحكومي أو ذلك الذي تم ترويضه. واختفاء الرؤى والرموز العامة هذه المرة سيخصم من رصيد الإعلام الحكومي والمروض لا العكس، لأن الناس صارت أكثر وعيا. بل أكثر من ذلك، فالمفارقة في أحداث صحيفة الدستور هي أنها أضافت دون قصد لوعي المواطن، حيث صار الآن يدرك بوضوح أكثر علاقة المال بحرية الرأي، ومن ثم صار حتى الإعلام الخاص مطالباً فى الفترة القادمة بأن يثبت مصداقيته.

لكل هذا، ولأنني أحسن الظن بفطنة من يفكرون في تقليص هامش الحريات، فإننى أرجح أنهم لم يمعنوا التفكير من الأصل فى الموضوع وعواقبه وإنما المسألة ببساطة أنهم سعوا للسيطرة الكاملة على زمام الأمور في مرحلة الانتخابات بأي طريقة وبعدها يحلها الحلال. لكن لعلني أهمس فى أذنهم بأن الموضوع قد يخرج فعلا من بين أيديهم فقد تؤدي الخطة إلى نتائج مختلفة تماما عما يريدون، فيكونون هم أكثر المتضررين منها.

فالانقضاض على الصحف الخاصة والبرامج الحوارية أو تطويعها وتهجينها لن يعني عودة الناس للمصادر الرسمية، وإنما سيعني أن وضعاً جديداً تماما بصدد أن يتشكل. فالبعض سوف يسعى بكل طاقته للحصول على المعلومات والرؤى، التي حرم منها بوسائل أخرى، وقد يلجأ هؤلاء للوسائل الإلكترونية والتكنولوجية. ورغم أن الذين سيلجأون لتلك الوسائل سيظلون أقلية بحكم المستوى التعليمي والقدرات المادية والتقنية، لكن يظل على الذين يراودهم حلم العودة بمصر لحالة أكثر ترويضا، أن يدركوا أنهم يفتحون الباب واسعا لتزايد تأثير كل الوسائل الإعلامية البديلة بل المصادر العربية والأجنبية التى لا تعجبهم.

أما الأغلبية، التى لا تملك الموارد والمهارات فالأرجح أنها لن تعود هي الأخرى للمصادر التي تم ترويضها وإنما ستلجأ للعنعنات وستنتشر في أوساطها الشائعات والأفكار الغريبة والرؤى التآمرية والمتطرفة.

بعبارة أخرى، في لوقت الذى لم يعد فيه ممكنا العودة بمصر لإعلام تحت السيطرة فإن الانقضاض على الإعلام من شأنه أن يخلق وضعا جديدا أكثر خطورة بكثير لأنه وضع يسهل من خلاله خلق ثقافات فرعية بالغة التطرف وانتشار أفكار ورؤى تخلق تربة مهيأة للانفجار غير المحسوب.

 

المصري اليوم - د. منار الشوربجي