تمثال أبو رحمة

 

ماتت جواهر أبو رحمة. كانت في السابعة والثلاثين. امرأة شابة. لم يأس أكثر مواطني اسرائيل لذلك. كان عليهم ان يؤخروا الأسى حتى يتبين سبب موتها. وكان السؤال عندهم بسيطا: هل ماتت جواهر أبو رحمة بسبب قنبلة غاز أطلقها جنود الجيش أم بسبب مرض سرطان الدم؟

 


يكمن وراء السؤال بنية سياسية. والسؤال بصياغته مثل بنية سياسية هو: هل ماتت بسبب الاحتلال أم ماتت دون صلة به؟ ولما كان الحديث عن بنية سياسية فقد استعمل فورا مقاولون وعمال.

جرى تحليل وثائق طبية على وجوه مكيافيلية؛ وعرضت شهادات جزئية؛ ونشرت أنباء محرفة. هذه اعمال معروفة تكاد تكون كليشيهات، تتم بعد كل حادثة مأساوية يكون فيها خيار الدحض مع التهويل.

ثمة شيء واحد مفهوم من تلقاء نفسه الآن وهو انه لن ينجح أحد في أن يبرهن للجانب الآخر على صِدقه. أي انه قد نشأت بنية خطابية – بيروقراطية مجيدة صارمة لا يمكن نقضها. تشبه تمثالا.

 


إن التمثال، وهو سؤال «الغاز أم السرطان» يقتل جواهر أبو رحمة مرة ثانية. أي ذكرى جواهر أبو رحمة. كيف يقتلها مرة ثانية: بأن يصبح هو نفسه جواهر أبو رحمة. ففي اللحظة التي أصبحت فيها جواهر أبو رحمة سؤالا وبنية سياسية و»الغاز أم السرطان»، فقدت وجودها بصفتها انسانا.

ماتت امرأة في السابعة والثلاثين وأصبحت تمثالا في لحظة. كيف يبدو هذا التمثال بالضبط، هذه البنية السياسية، داخل وعي المواطن اليومي: منذ الآن، عندما يسمع اسم جواهر أبو رحمة، سيخطر في باله التداعي الآتي: «انها هي التي قالوا انها ماتت بسبب الغاز، لكن تبين لنا في نهاية الامر انه كان بسبب السرطان في الحقيقة». وعلى نحو أكثر تبسيطا: «قالوا كذا لكن الحقيقة غير ذلك». واذا أردنا الاختصار نقول: «قالوا لكن في الحقيقة». وبكلمة واحدة: «لكن». إن جواهر أبو رحمة، عند اولئك الذين ظلوا أحياء هي «لكن». «لكن» هي صورة الصراع الخام. انها بنيته.

 


وأصبحت نتائج الصراع الاسرائيلي الفلسطيني على النحو الآتي: اختفى الانسان لصالح البنية. يموت الانسان ويظهر مكانه «لكن». مع ظهور «لكن» – أي مع اختفاء الانسان – يجاز الانكار أو تعليق المشاعر على الأقل. فالمشاعر ترى الآن «ترفاً»، وعاملا قد يضعف البنية ويسبب ضعضعة أسسها.
 

فقدت جواهر أبو رحمة في واقع الأمر الحق في أن يأسوا لها. ماتت امرأة في السابعة والثلاثين ولا أسى. يوجد بطبيعة الامر أسى متكلف يُصاغ بتصريحات متحدث الجيش الاسرائيلي، عمله أن يمكن من استمرار العمل بلا عذاب ضمير. لكن الأسى الحقيقي المصنوع من المشاعر، والذي يظهر عند الأحياء عندما يموت واحد من أبناء جنسهم قبل أجلِه، لم يعد هذا الأسى من نصيبنا.

 


إن البنية، التي أنشئت في الأصل لخدمة البشر، تقوم وتحيا الآن بفضل نفسها. فهي لم تعد محتاجة لبني البشر إلا أن يكونوا مواد خام لتعظيمها. إن كل انسان قد يصبح موته صورة يقدم قربانا للبنية. وهكذا تكبر وتتطور وتصبح الشيء نفسه. كل شعور يهدد بالتغلغل اليه ينكر ويكبت ويصبح غير شرعي. تصر البنية على تقوية الصورة فحسب، وتصر في مقابلة ذلك على الافراغ الدائم من المضمون لا سيما الشعوري. كانوا مرة بشرا يتصارعون وأصبح اليوم «الصراع». والبشر هم الذين يعبدونه.

 

ألون عيدان - HAARETZ