تمجيد المرأة والعقل الأجنبي.. وتحقير أنفسنا وزوجاتنا

 

انتشرت في السنين الأخيرة ظاهرة تحقير الذات وتمجيد الأجانب والأجنبيات، من أمريكا إلى اليابان والصين، مرورا بفرنسا وإنجلترا وهولندا وغيرها، ما إن تسافر واحدة أو واحد من المنتشرين في الصحف المصرية والإعلام المرئي والمسموع حتى يعود يروي عن العظمة هناك، لا أقول عنها «عقدة الخواجة» التي نشأت في ظل الاستعمار القديم، بل عقدة جديدة نشأت في ظل الانفتاح على البضائع الأجنبية التي غزت الأسواق المصرية. من أغشية البكارة الصينية وفوانيس رمضان، إلى أكياس القمامة الأمريكية، وفول مدمس كاليفورنيا.

حين دخلنا سجن السادات في مذبحة سبتمبر ١٩٨١ لم نعرف أسباب الاعتقال، فلم تكن هناك محاكمات ولا سؤال ولا جواب، جاءت العربات المصفحة العسكرية البوليسية وأخذوني إلى سجن النساء بالقناطر الخيرية، لكن الإشاعات كانت تسري من بين القضبان، سمعت السجانة تقول إن جريمتي هى مقال نشرته جاءت فيه هذه العبارة «حين هبطت إلى مطار القاهرة دهشت لأرى اسم شركة أجنبية مكتوبا فوق ظهور العمال المصريين الذين يكنسون الأرض، هل أصبحنا عاجزين عن كنس قمامتنا؟ هل أصبحنا نستورد كل شىء من المقشة والجاروف إلى الخبز وعصير البرتقال والفول المدمس؟».

همست السجَّانة في أذني.. السادات قرأ كلامك وقالهم هاتوها، ارموها في السجن مع الكلاب، ناوي لكم ع الموت يا ضكطورة، لكني كنت واثقة أنني سأعيش إلى الأبد، من أين جاءتني هذه الثقة؟ ربما صوت أمى في طفولتي لا يفارقني «نرمي نوال في النار ترجع سليمة».

أدت الهزائم المتكررة التي منيت بها بلادنا إلى فقدان الثقة بالنفس، والانبهار بقوة الأعداء وتفوقهم، لكن أحد أسباب الهزيمة هو فقدان الثقة في النفس منذ الولادة، داء ينخر في عقل الطفلة والطفل الذي يتربى على الخوف من الموت، والحرق في النار مثل الخروف، يقترن الخوف بالطاعة والولاء للسلطة في البيت والدولة.

حلت كلمة «الولاء» في القرن العشرين مكان كلمة «العبودية» في القرن التاسع عشر، وفي هذا القرن الحادي والعشرين حلت كلمة الانتماء بدل الولاء.

تخترع النظم الحاكمة في كل مكان وزمان كلمات بريئة جميلة للتغطية على القبح والجريمة، هناك أسباب كثيرة تمنع العقل من الإبداع والخلق في كل المجالات، أهمها الخوف من التمرد على السلطة في البيت والدولة، لم يبدع العقل الأوروبي في العلم والفن إلا بعد التحرر من الخوف، أولها الخوف من قمع السلطة السياسية والدينية. خاضت أوروبا حروبا دموية طويلة ضد سلطة الإقطاع التي مثلتها الكنيسة، انهزم الإقطاع ومعه الكنيسة ودخل العقل الأوروبي آفاقا جديدة, عجز العقل المصري (والعربي عامة) عن الإبداع في مجال العلم خلال القرون الأخيرة.

لم نسهم في اكتشاف الكهرباء أو الطائرة أو علوم الجينات أو علوم الإلكترونيات والتليفون الموبايل، وعلوم نشوء الكون والطاقات الذرية والنووية وموجات خلايا المخ الفكرية القادرة على تحريك الأجسام المادية، هذه العلوم تبدو لنا معجزات ننبهر بها ونحكي عنها بإكبار عظيم، مع السخرية من أنفسنا والإحساس بالضآلة أمام عظمتها، بعض الناس في بلادنا ينقلون ما يكتب في الصحف الأوربية والأمريكية دون تشغيل عقولهم، لم يتعلم عقلنا تشغيل نفسه بنفسه، لأننا نتعلم منذ الولادة أن عقلنا ناقص بالطبيعة غير قادر على الخلق. كلمة خلق تفزعنا، لأنها من اختصاص الآلهة وليس البشر، كلمة إبداع أيضا تفزعنا، ترتبط في وجداننا بالبدع والضلال.

يحترم الرجل العربي أو المصري زوجته الأجنبية، يعاملها على قدم المساواة، يثق في عقلها، تلقى امرأة مثل وزيرة الخارجية الأمريكية احتراما كبيرا في جميع الدول العربية بما فيها دول النفط التي تفرض النقاب والخمار والخيمة السوداء على نسائها، تجلس الوزيرة الأمريكية واضعة ساقا فوق الأخرى أمام الملوك ورؤساء الدول العربية، قد يتعرى جزء من فخذيها، كما كان يحدث مع كوندوليزا رايس ومادلين أولبرايت، ملوكنا ورؤساؤنا يجلسون أمامها في أدب شديد، يتكلمون بصوت خافت وهي ترفع صوتها وتضحك بأعلى صوتها، كما تفعل هيلاري كلينتون هذه الأيام.

يقولون عن المرأة باللغة العربية أو المصرية العامية «مرة»، في السجون يأمرون الرجل السجين بأن يقول عن نفسه «أنا مرة»، نوع من التعذيب والإذلال للرجل أشد من الضرب أو الكي بالنار، أو نفخه بالهواء مثل العجلة الكاوتش، أو تغطيس رأسه في جردل ماء حتى تطلع روحه.

الكاتبة الأجنبية تنال الاحترام والتبجيل في بلادنا، يقولون عنها مفكرة أو فيلسوفة، تنبهر بها النخب في بلادنا، ها هي الكاتبة ناعومى وولف، التي نشرت مقالاً بالإنجليزية منذ أيام قليلة، تنتقد فيه قرار الحكومة البريطانية بخفض تمويل الجامعات بنسبة تصل إلى ٤٠%، ينال التخفيض أساسا من العلوم الإنسانية منها الفلسفة والأدب والشعر، تشن ناعومي وولف حربا على هذا الاتجاه الذى يحترم الكيمياء والطب والهندسة، ويحتقر الفن والأدب والشعر والفلسفة وغيرها من التخصصات العقيمة المنحلة، هذه الردة فى التعليم التي بدأها الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة بقيادة رونالد ريجان منذ الثمانينيات من القرن العشرين ثم انتقلت إلى بريطانيا، مع تصاعد اليمين إلى الحكم وتغيير نظام التعليم ليخدم السوق، ويمنع تفتح العقل أو نشوء مجتمع مفتوح.

منذ نصف قرن من الزمان، نشرت كتبا ومقالات (موجودة في المكتبات حتى اليوم) عن ضرورة الربط في مناهج التعليم بين العلم والفن، بين الطب والأدب والموسيقى، بين العلوم الطبيعية (الفيزياء، الكيمياء، البيولوجيا، التشريح) وبين العلوم الإنسانية (الفلسفة، التاريخ، الآداب، الفنون التشكيلية، الرقص، الموسيقى، المسرح، السينما).

في كلية الطب (قبل وبعد التخرج) في منتصف القرن الماضي، كتبت ضد الفصل بين الطب الجسدي والطب النفسي والرياضي، بين الطب العلاجي الباطني أو الجراحة، وبين الطب الوقائي والصحة العامة والطب الشرعي، بل إنني طالبت بتدريس الفلسفة والموسيقى والأدب في كليات الطب، من أجل تخريج طبيبة أو طبيب إنسان متفتح العقل والوجدان، ينظر إلى مهنة الطب كعمل إنساني وليس كعمل تجاري لبناء العمارات والقصور، وقد تم اتهامي بواسطة النخب الحاكمة بالجهل أو الشيوعية أو الشغب والشطط، لكن حين تقول كاتبة أجنبية هذه الأفكار نفسها بعد مرور نصف قرن فهي مفكرة عظيمة، ورائدة تستحق التقدير، يفتحون لها مجالات الإعلام والصحف، لنشر كلامها ومناقشته بواسطة النخب في بلادنا.

  

 د. نوال السعداوي - المصري اليوم