تنتمي لما هو زائل

أحمد اسكندر سليمان - بلدنا
1 _ لاأذكر أين ومتى قرأت ذلك، ولكنه لم يُمحَ من ذاكرتي، عندما قال أحد الشعراء لأحد الملوك: «أنا أنتمي لما هو باق، وأنت تنتمي لما هو زائل».. هذه المقولة تشير حقاً إلى العلاقة المتوترة أبداً بين المبدع والسلطة التي تتجلَّى في الحاكم.. المبدع الذي ينتج نصَّه الذي لن يموت، يصنع الهوية المتحركة بين نصّين ينتجان العقاب: النص الديني الذي يعاقب على جريمة الوجود في هذا العالم!، ونصّ الحاكم الذي يعاقب على طريقة الوجود في هذا العالم!.. وعندما يتحالف الديني والحاكم، ويصبح الوجود والطريقة متماهيين، ويصبح من المستحيل الخروج من أرتال التشابه، ينفر الشاعر بعيداً عن الهوية ذاتها، التي تحوَّلت إلى ربع خالٍ يطحن الزمان والمكان في فراغ أزلي.
2 _ أدونيس.. سعدي يوسف.. نزيه أبو عفش.. زياد الرحباني.. مَن منهم لم يدفع الأثمان الباهظة في حياته لأنَّ بحثه عن الحرية لم يتشابه مع الأشكال التي يؤمن بها الآخرون من حشود وأنظمة حول المسألة نفسها.. متى كانت الأنظمة العربية، مهما كانت طبيعتها، راضية عن مبدع حقيقي.. أيضاً متى كانت الحشود، التي تتحكَّم فيها فتوى، راضية عن مثل هذا المبدع..
ليس غريباً أن يوضع المبدع على اللوائح السوداء لأيٍّ مِن الطرفين.. لكن ثمة فرقاً أكيداً؛ فالأنظمة تدرك أنها منتج تاريخي، وهي تحاول جاهدة إطالة ديمومتها بكلِّ الطرق الممكنة.. لكنها العقائد التي تتحكَّم في الحشود ومَن يدير دفتها ويمسك ألجمتها من خلال المقدس الذي لايتغيَّر، بل يفرض شروطه على الأرضي الدنس الذي يعيق وصول الميراث إلى مستحقّيه من المؤمنين الذين لايريدون على ما يبدو الدخول إلى الجنة إلا عن طريق احتلالها وإزاحة كلِّ مَن لاينتمي إلى الطريقة ذاتها عن طرق الدخول إليها.. لاتجرؤ الأنظمة على المساس بالمبدع، لأنَّ التاريخ بالمرصاد.. لكنها الحشود التي لاتتقن صناعة الثورات الهادئة، بل هيجانات الإفتاء التي تجد في المبدع أول أهدافها غير مبالية بالتاريخ تحت وطأة إيمانها بمرجعيتها المقدّسة، تلك المرجعية التي لم تصنع غير الهويات الخانقة والقاتلة.. تلك الهويات التي تعتقد بأنها وحدها مَن ينتمي إلى ما هو باق، ومِن حقها إزالة كلّ مَن لاينتمي إليها، دون أن تدرك أنَّ المبدع وحده من لاينتمي إلى الزوال.
3 _ كانت لي دائماً اعتراضاتي على دخول رجال الدين مساحات العمل السياسي.. هذه مساحات مختلفة، يتبدَّل فيها الأشخاص وفقاً لمصالح تترجمها آليات متَّفق عليها ومقوننة عبر حوار وصراع طويلين في المجتمعات التي تتغيَّر مع تغيُّر المصالح والآليات والقوى.. رجل الدين تحكمه ثوابت من الصعب إخضاعها للحوار، فالماضي المقدّس الذي ينبثق منه غير قابل للتبدُّل أو الإزاحة، وهو ليس التاريخي غير المقدس، والذي يمكن إعادة قراءته بشكل متواصل.. ثمة استثناء لكلِّ قاعدة.. هذه الاستثناءات تضيء مناطق مظلمة في العقل والتجربة كانت ستبقى لولا وجود هذه الاستثناءات.. هذه الاستثناءات ليست أصناماً للعبادة، بل هي لتحرير العقل الذي كاد يتحجَّر بفعل العادة أو النمط.. الذين لايرون الاستثناء الأبهى الذي يضيء تلك المناطق المظلمة التي اعتادوا على إدمان دونيتهم فيها، عليهم تحرير ثورتهم من قتلة القاعدة والتكفيريين والمجرمين والمدمنين والشاذين والعملاء.. بعد أن يحرِّروا ثورتهم من كلِّ هذه الأدران، ويحوِّلوا هذا الحراك عن حالته الفئوية إلى حالة سياسية لها برامجها العقلانية، بعيداً عن هذا الجنون الذي يرتكبونه، ويتقدِّموا إلى الحوار وبيدهم برامج نظيفة إلا من السلوك الوطني.. عندما يغيِّرون ما في أنفسهم، قد أسمح لنفسي بالغفران لهم إذا تجاوزوا ظلامهم، وحين يعرفون أنَّ الاستثناء لايظهر إلا عندما تفقد القاعدة توازنها وتصبح خطراً على الذين يعيشون في ظلالها.. فقاعات العقول الصغيرة أنت تصنعين عصابات صغيرة في حارات مغلقة.. أمراء الزواريب.. العقل ليس وكراً.