تنذكر ما تنعاد...

هيام حموي . البعث
منذ فجر التاريخ، بل منذ قابيل وهابيل، واليد التي منحها الخالق لمخلوقه الإنساني لا تفتأ تقترف الشرور والآثام، مع أن المهمة الأولى كانت تقتصر على بناء الحياة في كون واعد بالخير والازدهار لبني البشر.
يذكر كثر من الشعراء والفنانين أنهم توقفوا ذات برهة من مسيرتهم الإبداعية ليتأملوا تلك اليد التي بها يمسكون القلم أو الريشة فتنقل الأفكار من مخيلتهم إلى الورق أو قماش اللوحة، وما كان يدور في خاطرهم أن أيدي أخرى ستتجرأ على إيذاء يدهم المبدعة.
يوم اغتيل، قبل سنوات، صحفي جريء في بلد مجاور، وجدتُ يدي، تمسك بالقلم وتكتب الكلمات التالية، والمؤسف أن الكلمات ذاتها، مازالت طازجة وصالحة، حتى بعد مرور السنوات، إذ ما تزال أيدٍ آثمة تمتد لتغتال الإبداع الذي يستحق الحياة الآمنة مهما كان مشاكساً، يدي والقلم كتبا يومها:
“غادرة!”... تلك هي الصفة الأكثر شيوعاً بين الصفات التي أسبغتها بيانات التنديد، على "اليد" التي نفذت عملية اغتيال الصحفي الجريء فحوَّلته بكبسة زر، نفذها أحد أصابع اليد المذكورة، إلى أشلاء وحطام وركام ورماد وفقيد وشهيد لم يسلم منه سوى الرأس واليد!!(حسب الصور والشهود).
يا للغرابة، "سلِمت اليد" التي كتبت، في حين احترق القلم...
ولكن ماذا عن اليد الأخرى، تلك التي كانت تلهو بآلة الدمار المتطورة تقنياً؟.
القتل بأجهزة الاستشعار عن بعد، يضمن مسافة مقبولة بين الجاني وضحيته، تغنيه عن تضرّج اليدين بالدماء، فهل تختلف ردود فعل جناة القرن الحادي والعشرين عن ردود فعل أسلافهم منذ فجر الأزمان؟.
احتشدت الأسئلة بفضول يحاول فهم تفاصيل "اللماذا" و"الكيف" و"الكم" متبوعة بعشرات علامات الاستفهام...
هذه "اليد الغادرة"، أو "الآثمة"، أو "القاتلة" متصلة حكماً بجسم من لحم ودم لكائن يُفترض أن له عقلاً يدبّر، يفكّر، أو يوافق على ما يخططه آخرون. ما الذي كان يجول بخاطر هذا العقل حين فرض على اليد والإصبع تنفيذ الأوامر... وما الذي فعلته "اليد" تحديداً بعد أن ضغطت على زر الإعدام؟.
هل امتدت إلى جيب البنطلون لتسحب منديلاً يجفف حبات عرق تندّى به الجبين، انفعالاً من التكرار المزري لسيناريو قابيل وهابيل، أم أن اليد ارتفعت إلى مستوى الشفاه لتتوارى خلفها ابتسامة التشفّي السادية التي ألفناها على وجه القتلة والسفاحين في الأفلام الهوليوودية العنيفة، بعد أن يشفي مشهد الدماء غليلهم المريض؟.
هل تناولت "اليد" زجاجة ماء بلاستيكية من ماركة مشهورة، كما نشاهد في الإعلانات الشهيرة عن المشروبات المنعشة، لتروي جفاف الحلق بعد ارتكاب الجريمة، أم أن صاحب اليد من الذين يقوون على ارتكاب الخطيئة المميتة ("مميتة" بكل معنى الكلمة!) دون أن يرف لهم جفن؟.
هل أن اليد، راحت تتعامل بتوتر شديد مع رقم سري فوق جهاز الموبايل ليعرف المتلقي في الجهة الأخرى أن المهمة القذرة قد تكللت بالنجاح؟.
هل هي اليد ذاتها التي ستمتد لتتسلّم مكافأة المهمة "الصعبة"بعملة أصعب؟ أم أنها ستبقى على مبدأ "لا تعرف اليمنى ما تفعله اليسرى"؟.
وهل ستقوى المكافأة، وإن كانت بالأموال المغسولة، على تنظيف اليد القذرة، وهل بإمكان المال المبيّض أن يرفع السواد عن فعلة يد سوداء؟.
هل استطاعت اليد بعد ذلك، دون أن تغتسل طويلاً، بالماء والصابون، أن تلامس وجه الحبيبة، أو أن تداعب الزوجة في محاولة ربما لتناسي ما اقترفته قبل ساعات؟ هل هي يد تحب اللمس، تعشق الحياة، وتستمع بملمس الحرير والمخمل والدانتيل، أم يد موسوسة تأنف حتى السلام على يد صديقة؟.
وهل هي يد قادرة على المصافحة دون وجل، وكأن شيئاً لم يكن، أم هي يد ستعاني من الرجفة والرعشة، عندما سيكتشف صاحبها هول ما فعل، ويدرك أنه بفعلته سوف يكون أحد أهم العناصر التي ستساهم في تسليم الأوطان لقمة سائغة إلى قوى السوء؟.
قد لا تهتدي لجان التحقيق لبصمات أصابع هذه اليد، وقد يظل سرها لغزاً أبدياً، لكن بصمتها فوق جهاز "التفجير عن بعد" دمغت تاريخنا، وساهمت في انحراف إضافي لاتجاه مستقبلنا نحو الخراب المؤكد... شئنا أم أبينا.