ثـورة مصـر توجّـه إنـذارهـا الأخيـر

كتبت ثورة مصر بالملايين التي حشدتها في القاهرة وفاضت عن ميدان التحرير، أمس صفحة جديدة من تاريخها الباهر، واقتربت أكثر فأكثر من تحقيق أهدافها، لا سيما منها الرحيل الفوري للرئيس حسني مبارك، وتفكيك نظامه المتهاوي الذي قدم أمس المزيد من التنازلات المتأخرة، التي يبدو أنها لن تهدئ الغضب الشعبي بل ستزيده إصرارا على التعبير عن ذروته في تظاهرة يوم الجمعة التي وصفت بأنها تظاهرة الفصل، إذا لم يتدارك الأمر ويتوقف عن المراوغة والمماطلة استنادا إلى مهل دستورية وهمية شطبتها الثورة الشعبية، ويغادر البلد في اليومين المقبلين، لأنه بعد ذلك التاريخ سيتم طرده عنوة.
في ختام التظاهرة المليونية التي أجمعت التقديرات والشاشات على أنها الأضخم منذ بدء الثورة في 25 كانون الثاني الماضي، تداولت أوساط القاهرة الموالية والمعارضة على حد سواء، سيناريوهات عدة قاسمها المشترك ان وقت النظام قد انتهى فعلا، ولم يبق لديه من أوراق يمكن ان يلعب بها، سوى الإقدام على الخطوة الأخيرة التي يتفاداها وهي الخروج فعلا ونهائيا من الرئاسة، والاختيار بين السفر إلى ألمانيا للعلاج وسط أنباء عن ان مستشاره زكريا عزمي توجه بالفعل إلى المستشفى الألماني في هايدلبرغ لإعداد الترتيبات، أو بين الانتقال إلى شرم الشيخ تاركا توقيعه وراءه، ما دام يصر على ان مصيره لن يكون مثل مصير نظيره التونسي زين العابدين بن علي الذي انتهى في المنفى السعودي في جدة، علما ان شائعات راجت عن ان الرسالة التي حملها إليه وزير الخارجية الإماراتية عبد الله بن زايد تتضمن عرضا بالسفر إلى أبو ظبي.
وهكذا، بدت تظاهرة أمس التاريخية كأنها إنذار شعبي أخير بالرحيل واستفتاء حاسم ضد النظام الحالي، ورد على التحديات التي وجهها مبارك إلى الجمهور عندما ظهر أمس الأول على شاشة التلفزيون يترأس اجتماعين يهدفان إلى توكيد بقائه حاكما، وعندما خرج نائبه عمر سليمان وقرأ على المصريين ما اتخذه مبارك من قرارات لا سيما تشكيل لجنة تعديل الدستور، التي فات الأوان عليها وبات الشارع يتعامل معها باعتبارها محاولة لكسب الوقت ليس الا، وعندما أذاعت وسائل الإعلام المحلية والعربية والأجنبية، لا سيما محطة «سي ان ان» الأميركية تفاصيل إضافية عن ثروة مبارك المقدرة بخمسة وسبعين مليار دولار، بحسب آخر التقديرات التي وضعته على رأس قائمة أغنى أغنياء العالم. اجتمعت هذه الصور لتشعل الغضب المصري أكثر من أي وقت مضى، وأنزلت إلى ميدان التحرير إعدادا فاقت التوقعات، من مختلف الشرائح الاجتماعية الغنية والفقيرة والمتوسطة، حتى فاض الحشد على الميدان الى الشوارع المحيطة به وصولا حتى إلى ميدان رمسيس الذي يبعد عنه قرابة كيلومترين، وحاصر مباني جميع مؤسسات الدولة المصرية القريبة من الميدان، لا سيما مجلسي النواب والوزراء اللذين لم يكن بالإمكان الوصول إليهما. وأضيف إليها مشهد رمز الثورة الشاب وائل غنيم الذي بكى على شاشة التلفزيون أمس الأول، بعد خروجه من السجن وأبكى الملايين من المصريين.
نظام مبارك
برغم ذلك، بدا النظام المصري في حال من الغيبوبة أمام ما يجري في الشارع، إذ خرج نائب الرئيس المصري عمر سليمان، بعد اجتماعه مع مبارك، ليعلن أن لدى النظام خطة وجدولا زمنيا لانتقال سلمي للسلطة، مضيفا ان الحكومة لن تلاحق المحتجين الذين يطالبون بتنحي مبارك الآن.
وقال سليمان، الذي بحث مع مبارك ما جرى في جلسات الحوار مع قوى المعارضة الرسمية، إن «السيد الرئيس أبدى ترحيبه بهذا الوفاق الوطني مؤكدا أنه يضع أقدامنا على بداية الطريق الصحيح للخروج من الأزمة الراهنة، ومشددا على ضرورة مواصلته والانتقال به من الخطوط العريضة لما تم الاتفاق عليه إلى خريطة طريق واضحة بجدول زمني محدد تمضي بمصر على طريق الانتقال السلمي والمنظم للسلطة في إطار احترام الشرعية الدستورية».
وأضاف سليمان انه «تنفيذا لما تم التوافق عليه بين أطراف الحوار، فقد وقع السيد الرئيس قرارا جمهوريا بتشكيل اللجنة الدستورية التي ستضطلع بتناول التعديلات المطلوبة في الدستور وما تقتضيه من تعديلات تشريعية مصاحبة»، مشيراً إلى أن مبارك أصدر «تعليماته لرئيس مجلس الوزراء لتشكيل لجنة المتابعة التي ستضطلع بمتابعة التنفيذ الأمين لما تم التوافق عليه بين أطراف الحوار الوطني مع تعليمات موازية بتشكيل لجنة ثالثة لتقصى الحقائق حول أحداث ومواجهات يوم الأربعاء الماضي (هجوم البلطجية على ميدان التحرير) وإحالة ما تتوصل إليه على النائب العام ليتخذ بشأنه ما يلزم من إجراءات».
ونقل سليمان عن مبارك قوله إن «شباب مصر يستحقون تقدير الوطن»، مشيراً إلى أنّ الأخير «أصدر تعليماته بالامتناع عن ملاحقتهم أو التضييق عليهم أو مصادرة حقهم في حرية الرأي والتعبير».
وذكرت وكالة «أنباء الشرق الأوسط» أن قرار إنشاء اللجنة القانونية ينص على أن «تتولى اللجنة دراسة واقتراح ما تراه من التعديلات الدستورية للمواد 76 و77 و88 وغيرها من المواد الأخرى، وما تتطلبه التعديلات الدستورية المقترحة من تعديلات تشريعية لبعض القوانين المكملة للدستور ذات الصلة»، مشيراً إلى أن الهدف من ذلك هو «تحقيق إصلاح سياسي وديموقراطي يلبي طموحات أبناء الشعب في مجال الانتخابات الرئاسية».
وتنص المادة 76 على أن تلزم لقبول الترشيح لرئاسة الجمهورية أن يؤيد المتقدم للترشيح 250 عضواً على الأقل من الأعضاء المنتخبين لمجلسي الشعب والشورى والمجالس الشعبية المحلية للمحافظات. ولكل حزب من الأحزاب السياسية التي مضى على تأسيسها خمسة أعوام متصلة على الأقل قبل إعلان فتح باب الترشيح. أما المادة 77 فتحدد مدة الرئاسة بست سنوات وتجوز إعادة انتخاب رئيس الجمهورية لمدد أخرى، في حين تقضي المادة 82 على أن تتولى لجنة عليا تتمتع بالاستقلال والحياد الإشراف على الانتخابات على النحو الذي ينظمه القانون ويبين القانون اختصاصات اللجنة وطريقة تشكيلها وضمانات أعضائها على أن يكون من بين أعضائها أعضاء من هيئات قضائية حاليون وسابقون.
وتضم اللجنة، بحسب القرار، عشرة أعضاء كلهم من كبار القضاة في محكمة النقض والمحكمة الدستورية العليا ومجلس الدولة إضافة إلى خبراء قانونيين. وشدد القرار على أن «تنتهي اللجنة من مهمتها في موعد أقصاه آخر شهر شباط الحالي»، على أن ترفع إلى نائب الرئيس «تقريرا بالنتائج التي أسفرت عنها واقتراحاتها بشأن التعديلات الدستورية والتشريعية اللازمة وذلك لتعرض على رئيس الجمهورية لاتخاذ ما يلزم لطلب تعديل الدستور».
وفي محاولة استعراضية جديدة للتأكيد أنه ما زال ثابتاً على كرسي الرئاسة، التقى مبارك وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان الذي سلمه رسالة من رئيس دولة الإمارات الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان.
في هذا الوقت، قال سليمان في مقابلة مع رؤساء تحرير الصحف المصرية، إن «الأوضاع السياسية الحالية في مصر تفرض طريقين للاستقرار لا ثالث لهما، الأول هو الحوار والتفاهم الذي تعمل عليه أجهزة الدولة اليوم مع قوى المعارضة والشباب المتظاهرين، والثاني هو الانقلاب الشامل».
وحول مطالبة الشعب المصري بالتغيير الشامل قال سليمان إن مبارك «تجاوب بنسبة كبيرة جداً، وهي الاستجابة الممكنة في الإطار الزمني الحالي مع هذه المطالب». وأضاف ان مبارك لم يكن يمانع في «جمعة الغضب» بالتنحي «لكن الزمن المتاح لتداول السلطة هو 200 يوم، وبالحساب رأينا أنه من غير الممكن تحقيق هذه المطالب خلال هذه الفترة». واعتبر أن كلمة «الرحيل» ليست من أخلاقيات الشعب المصري «الذي يحترم كبيره ورئيسه».
ورداً على سؤال حول احتمالات أن يسافر مبارك إلى ألمانيا، قال سليمان إن «الرئيس مبارك لن يترك مصر إلى ألمانيا أو إيطاليا أو أي دولة أخرى، وهو باقٍِ في بلده مصر وسيدير خريطة الطريق إلى أن تنتهي فترة ولايته». وأضاف «نشكر المستشارة (انجيلا) ميركل على دعوتها الكريمة للرئيس مبارك، لكن الرئيس مبارك يتمتع بصحة جيدة ولا يحتاج لعلاج».
وكانت صحيفة «نيويورك تايمز» نقلت عن سليمان قوله إنه لا يعتقد أن الوقت مناسب لإنهاء قانون الطوارئ الذي استمر ٣٠ عاما في مصر، ولا يعتقد أن مبارك في حاجة للاستقالة قبل انتهاء فترة حكمه في سبتمبر، كما لا يعتقد أن بلده جاهزة بعد للديموقراطية.
شام نيوز- السفير