ثمانون عاماً على اكتشاف أوغاريت منعطف تاريخ البشرية

شام نيوز – تيسير أحمد

 

في كل يوم يكتشف موقع أثري جديد في هذا البلد أو ذاك، ولكن المواقع التي تشكل منعطفات في الوعي البشري تبقى قليلة وتعد على أصابع اليد الواحدة، ومن هذه المواقع مدينة أوغاريت الكنعانية، معلمة البشرية أبجديتها الأولى، وملهمة الإغريق ملاحمهم التي فاخروا بها العالم.

كانت أوغاريت التي تتربع على تل قرب رأس شمرا غربي مدينة اللاذقية عاصمة مملكة تضم مئات القرى والمزارع، التي تحيد بها من جهاتها الثلاث.

وقصة اكتشاف هذا الموقع المفصلي في تاريخ البشرية طريفة كما يرويها علامة اللاذقية الراحل جبرائيل سعادة: "في عام 1928 كان رجل من أهالي منطقة برج القصب اسمه محمود الزير يحرث حقله بالقرب من خليج يقع على بعد 10 كلم شمال مدينة اللاذقية، وبينما كان يقوم بعمله لاحظ أن المحراث يصطدم بجسم صلب ومن ثم وجد ورفاقه مدفناً قديماً مبنياً بالحجر المصقول وفي داخله كمية من الأواني الفخارية"

وفور انتشار الخبر سارع العالم الآثار الفرنسي كلود فريدريك شيفر فورييه إلى المكان وبدأ حملة تنقيبات انتهت بوفاته عام 1982، غير أنها استمرت بعده.

لقد غير شيفر باكتشافاته الأوغاريتية صورة العالم لدى الكثير من الباحثين، وطور الكثير من الآراء المتعلقة بالبحث الأركيولوجي.

 

 

اسم أوغاريت

 

ورد اسم " أجرت " في رقيم غير مكتمل فيه العبارة التالية Ingmd Mlkegrt والتي ترجمت على النحو التالي "نقمد ملك أوغاريت". كما ورد اسم أوغاريت في رقيم آخر اكتشف عام 1929 وفيه العبارة التالية Bnegrt وتعني موطن أجرت، أما معنى أجرت فهو الحقل، وهذا الاسم على ما يبدو هو من الجذر السامي حرث، والحرث هو الحقل المحروث.

 

بينت الحفريات والأسبار الأثرية أن موقع رأس شمرا يشمل على حوالي 20 سوية أثرية (استيطان) تعود حتى العام 7500 ق.م. إلا أنه مع حلول الألف الثاني قبل الميلاد تضخم الاستيطان في الموقع لتتشكل ما عرف باسم أوغاريت هذا الاسم الذي كان معروفاً قبل اكتشافها- صدفة في العام 1928 م- من خلال ذكرها في نصوص مملكة ماري ، حيث تذكر النصوص زيارة الملك زمري ليم في العام 1765 ق.م لأوغاريت، ومن رقيم آخر عثر عليه أيضاً في وثائق ماري، وهو عبارة عن رسالة من ملك أوغاريت إلى ملك يمحاض بعاصمتها حلب، يرجوه فيها أن يطلب من ملك ماري (مملكة ماري على نهر الفرات في سوررب دير الزور) أن يسمح له بزيارة قصر ماري الذي كان ذائع الصيت في ذلك الوقت، وإن دل هذا على حرص أغاريت على أقامة علاقات طيبة مع ملك ماري فإنه يدل في نفس الوقت بأنه يحرص أن تكون هذه العلاقة عن طريق وبمعرفة ملك يمحاض القوي. وكذلك ورد ذكر أوغاريت في النصوص الحثية المكتشفة في الأناضول و سورية و رسائل تل العمارنة المكتشفة في مصر.

  

 

منظر عام لبقايا المدينة

 قدّر عدد سكان مدينة أوغاريت في القرن الثالث عشر قبل الميلاد بـ 8000- 6000 نسمة وذلك اعتماداً على بقايا البيوت العشرة آلاف المكتشفة فيها، أما سكان باقي المملكة فيقدرون بـ 50000 إلى 35000 نسمة، موزعين على 150-200 قرية ومزرعة تابعة للعاصمة. وتبين النصوص وجود سكان حوريين وحيثيين وقبارصة في العاصمة أوغاريت، كذلك بعض الجبيليين و الأرواديين والصوريين والمصريين.

 

 

أبجدية أوغاريت وقواميس اللغة

 

أبجدية أوغاريت هي أكمل أبجديات العالم القديم وأغناها وأكثرها شمولاً تحتوي على 30 حرفاً، وبسبب التقدم والازدهار التي عاشته أوغاريت كانت لغتها من أهم اللغات السامية بل هي أكمل هذه اللغات.

وقد كان أهالي أوغاريت يتقنون لغات عدة إلى جانب لغتهم الأساسية، ووضعوا لذلك قواميس متعددة اللغات، ولكن اللغة الرئيسية التي اكتـُشفت في رسائلهم هي لغة سامية كنعانية دعيت "أوغاريتية". وبجانب اللغة الاوغاريتية كانت هناك في المملكة لغات اخرى مستخدمة مثل اللغة الأكادية التي استخدمها سكان المملكة في تعاملاتهم مع بعض المناطق، كما كانت العادة في جميع أنحاء الشرق الأوسط في ذلك الحين.

 

وقد أثار تحليل اللغة الأوغاريتية الخلاف بين اللغويين إذ لاحظوا أنها لا تنتمي إلى أية مجموعة من مجموعات اللغات السامية التي كانت معروفة آنذاك، إضافة إلى أنها تعتمد نظاماً أبجدياً يختلف عن النظام المقطعي الذي كان سائداً في جميع كتابات العالم القديم. لقد كانت الأوغاريتية إحدى تنويعات "اللغة الكنعانية".

لقد تبنى أدباء وكتاب المدينة كيفية الكتابة المسمارية على ألواح الطين وتبنوا كذلك فكرة الأبجدية التي كانت قد ظهرت منطقتهم وهي الأبجدية الكنعانية الأولية (بروتو- كنعانية) . فضمت الأبجدية الأوغاريتية 30 رمزا مسماريا ولكن كل رمز أشار إلى حرف ساكن واحد وليس إلى مقطع أو كلمة.

في مكتبة القصر الملكي في أوغاريت وجدت لوحات ورقم فخارية مكتوبة باللغات: الأكادية، والأوغاريتية، والحورية، والحثية، والقبرصية وغيرها من لغات سورية القديمة ، فيها معلومات مهمة عن التنظيم السياسي في المملكة وتشريعاتها وأنظمتها، وعلاقاتها بجيرانها. كما وجدت في هذه اللوحات نصوص دينية وقانونية ووصايا، وتحارير، ومعاهدات، وأبحاث طبية وبيطرية، والعلاقات التجارية وغير ذلك ، وكذلك نصوص سومرية وبابلية، وهيروغليفية وحثية. وما يميز حضارة أوغاريت ويدل على مدى التطور التي وصلت إليه المعاجم اللغوية التي اكتشفت ومخطوطات التفاسير وغير ذلك.

 

قصور ومكتبة فخمة

احتلت أوغاريت موقعا متقدما على خارطة الحضارات القديمة للأهمية التي تتمتع بها وما قدمته من معطيات وما تم الكشف عنه من آثار لمدينة جيدة التخطيط والمباني ومدى تقدم العلوم فيها ، وكشفت الحفريات في العاصمة أوغاريت العديد من الطرقات المرصوفة، والدور والابنية الجميلة للسكن والمباني الادارية والحكومية ، ومكتبة فخمة في القصر الملكي، الذي يعتبر من أفخم القصور في الشرق القديم ، بمساحة قدرت بـ 10000 متر مربع طليت بعض أجزاؤه بالفضة، ويدافع عنه برج ضخم ذو جدران كثيفة، كما كشفت أعمال التنقيب (عام 1975 م) في رأس ابن هاني، على بعد خمسة كيلومترات إلى الجنوب الغربي من مدينة أوغاريت عن قصرين ملكين، في شمال و جنوب الموقع، وكذلك مجموعة من المدافن والقبور في الجهة الجنوبية،وعلى خلفية الأرشيف الكتابي الكبير الذي وجد في القصر الشمالي والذي يؤرخ في عهد الملك اميشتمرو الثاني ( 1260- 1235 ق.م) يرجح كونه مقرّ البلاط الملكي الثاني لملك أوغاريت .

 كانت أوغاريت مركزاً تجارياً هاماً بين منطقة الأناضول ومن خلفها مناطق اليونان في الشمال والغرب ووسط أوروبا، ومناطق سورية الداخلية وبباد الرافدين وكذلك مصر في الجنوب، فكانت مدينة تجارية بامتياز ولها سمعتها وقوتها التجارية، واشتهرت أوغاريت بالصناعة فكانت مركز إنتاج وبيع الأخشاب وصناعة المعادن والأواني المشغولة بحرفية ودقة عالية والمنسوجات والأقمشة والأصبغة المستخلصة من صدف الأرجوان (Hexaplex trunculus), وكذلك كانت متقدمة من الناحية الزراعية فقد عرف عن مملكة أوغاريت غناها بالمنتجات الزراعية وخصوصاً الزيتون الذي عثر على المعاصر الخاصة باستخراج الزيت منه، وكذلك القمح والشعير وبعض المنتجات الزراعية التي كانت تصدرها للمناطق المحيطة. أو عن طريق ميناء أوغاريت الذي يعرف اليوم باسم المينا البيضا حالياً - كان هذا الميناء مركزاً مهماً للتجارة يعج بالسفن و بالبضائع من جميع الأنواع.

 

الديانة والمعتقدات

 

كانت الديانة الأوغاريتة هي امتداد لديانة كنعانية كما تبين الأساطير الميثولوجية الواردة في النصوص الدينية والملاحم ونصوص الشعائر والعبادات وكذلك من وجود عدة معابد أهمها معبدين بينهما بيت الكاهن الأكبر، وهما معبد الإله إل (ءل - ءيل - إيل)، (بيت إيل) و الإله دجن (داجان، داجون) معه، في الجهة الجنوبية الشرقية والذي يرجح تاريخ بناؤه بـ 2000 ق.م، ومعبد الإله بعل (بيت بعل) في الجهة الشمالية الغربية وهو أحدث في حوالي 1400 ق.م وكان للمعتقدات تقوسها وشعائرها .

 

 

 الاله بعل

 

أوغاريت والتراث الإنساني

1 – لا جدوى من إعادة الحديث عن الأبجدية الأوغاريتية التي تقف خلف الأبجديات  العالمية اليوم ، فهذا أمر مسلم به منذ يوم 14 أيار 1929 حينما ظهر لوح الأبجدية إلى النور بعد نومه أكثر من ثلاثة آلاف سنة تحت التراب . ومن هذه الأبجدية كانت الأبجديات العالمية : الآرامية وما تفرع عنها ، واليونانية القديمة وما تفرع عنها.

2 – أوضحت الدراسات الأوغاريتية قضية حضارية هامة، هي مدى احترام الآخر والقبول بالعيش المشترك في نطاق من السلم والتعامل المرن. وهذا ما تؤكده  العلاقات الأوغاريتية مع دول الجوار كالحثيين والمصريين وجزر البحر المتوسط، كما تؤكده البراعة السياسية في توازن العلاقات الخارجية، وخير مثال على ذلك، السياسة الخارجية للملك نقمد الثاني وعلاقاته مع دول الجوار.

3 – العيش المشترك داخل اوغاريت ومدن الساحل للسكان الأصليين والجاليات المقيمة أو الطارئة. وقد وضح من اللقى المكتشفة أن اوغاريت كانت مدينة تجارية ذات نشاط واسع، فيها الحثي والحوري والكريتي والقبرصي والمصري، إلى جانب شعبها الكنعاني الأصل. وأكد ذلك وجود لغات مختلفة في الوثائق المكتشفة، كالمسمارية البابلية والسومرية والحورية والقبرصية والحثية والهيروغليفية المصرية والكريتية، إلى جانب الاوغاريتية لغة أهل البلد.

4 – التنوع الكبير في الوثائق، ودقة هذه الوثائق في تنوعها بين اقتصادية وقانونية وإدارية ومهنية ورسمية ودينية وأدبية ومراسلات وفنون، وتفاصيل عن الآلهة والشعر والسحر والأساطير والأوزان والمكاييل والزهور .. الخ.

5 – الملاحم الكبرى التي تعتبر نماذج أدبية وفكرية عالمية، تصور الحياة الدينية والفكرية والأدبية لأوغاريت وللعصر الفينيقي. وقد تركت هذه الملاحم أثرها الحاسم في الفكر العالمي من خلال أسماء آلهة مثل بعل و دجن و يمّ وعناة وشمش .. الخ، وأسماء أساطير مثل قدموس و كرت.

6 – تبرز الدراسات الاوغاريتية التي بلغت من عمرها ثمانين عاماً، معلومات دقيقة حول الأديان واللغات والكتابات وتاريخ شرق المتوسط في الألف الثاني قبل الميلاد، وهذه المعلومات تصحح ما كان شائعاً من معلومات ثبت أنها خاطئة.