ثورة الياسمين تعانق ثورة ميدان التحرير!!

 

لم تكد تتكلل ثورة تونس الخضراء بالياسمين، وبهروب زين العابدين بن علي، حتى فاجأتنا الأرض العربية المعطاءة بثورة ميدان التحرير المصرية.. ثورتان شعبيتان بكل معنى الكلمة في حين أن ما تعودنا عليه يوما كان الإنقلابات العسكرية. وشتان ما بين الأمرين شرعية وشعبية.

كان السواد والتشاؤم ونعيق البوم والغراب يسيطر على الحياة العربية، حتى فقدنا الأمل بالقومية العربية وغدونا نغني وننشد القطرية.

كانت حرب العراق والغزو الأمريكي والغزو الإسرائيلي للبنان وغزة والقواعد العسكرية الأمريكية وهزال المفاوضات تجلدنا صباح مساء وتأخذنا إلى المجهول برفقة الانظمة غير الديمقراطية، إلى أن جاءت ثورة الياسمين وتبعتها ثورة ميدان التحرير، فاصطف الشعب العربي والعقل العربي وجل غير مصدق مشدوه من وقع المفاجأة.

لاحظوا، أننا نتحدث عن ثورة مدنية شعبية وليس عن انقلاب عسكري. فالثورة دائما وأبدا، وقودها الشعب بكل طوائفه وأفراده وأديانه، بينما الإنقلاب العسكري يحركه جيش وعسكر وضباط طمعا في الإستيلاء على الحكم وتشكيل مجلس قيادة للثورة، وما يلبث هؤلاء أن يستطيبوا الحكم فلا يتركوه إلا بعد انقلاب عسكري آخر وهكذا دواليك، أو على الأقل هكذا تعلمنا وهكذا تعودنا. ولعل التجارب في خمسينيات القرن الماضي وستينياته تؤكد هذه المقولة وهذه التجربة المريرة.

في عتمة الليل وقبل أن ينبلج الفجر، استكان الإنسان العربي، وتجرأت الأنظمة العربية على شعوبها فعذبتها وأذلتها، وفسدت السلطات الحاكمة فسرقت اموال دولها، ورضخت الشعوب المستباحة خوفا ووجلا فصادر الحكام حريتهم ، فشربوا حليب الذل والمهانة. واعتقد الأمريكيون ومن ورائهم أو أمامهم الإسرائيليون أن الأمة العربية وشعوبها العربية لن تقوم لها قائمة وها هي تستقر في قاع الردى.

لكن الوطن العربي كان بركانا يغلي في داخله وراغبا في الثورة الدستورية، فحمل حملا عسيرا تمثل ألما ومعاناة وثورة ضد ذله وضيمه ومهانته. وجاءه المخاض في خاصرة الوطن العربي الضعيفة متمثلا في ثورة الياسمين. لذا لم يصدق أحد ما جرى في تونس ابتداء، بل أشفق الكثيرون الحريصون الطيبون من أبناء الشعب العربي، على الشعب التونسي من حاكمها، وخشي الكثيرون على مستقبلها ومستقبل أبنائها. وقدمت الثورة التونسية درسا لطلاب التاريخ وحقوق الإنسان والعلوم السياسية والإجتماعيات والأمة العربية، أن الشعب إذا اراد الحياة والثورة فهو أقوى من كل القوى ولا بد أن يستجيب القدر كما قال شاعرها أبو القاسم الشابي، ولن توقفه قوات أمن أو جيش لحاكم.

وقعت صاعقة ثورة الياسمين على رأس الشعب العربي وقعا جميلا جعلته يستعيد وعيه بعد أن أعياه التعب والجهد. ونفس الحال انتقل إلى مصر . وسرعان ما تحقق الشارع العربي أن هناك أدوات مساعدة ومعاونة للثورة غير دبابات الجيش وآلياته. فغدت الهواتف المحمولة والإنترنت والشبكة العنكبوتية وال إس إم إس والتويتر والفيس بوك وآلات التصوير، أسلحة حارقة في وجه الأنظمة البوليسية، وتنقل المعلومة والخبر والصورة والشريط، دون رقيب أو حسيب ولا يستطيع أحد أن يوقفها.

وقبل ان يستفيق أحد من الحكام من نومهم، وبينما كانوا يغطون في سباتهم العميق معتقدين أن الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها تحميهم من شعوبهم، وقبل أن يتعظوا بدرس ثورة الياسمين وأخذ الإحتياطات ضده، خرجت جماهير الخامس والعشرين من كانون الثاني في مصر الكنانة بثورتها الجارفة في كل مكان من مدن وريف مصر العامرة، وبخاصة في ميدان التحرير، فقد كانت أسرع بالتأثر من الحكام ومن حولهم. وكان شعارها الإصلاح والقضاء على الفساد والديموقراطية كمنهج وأسلوب حياة وقدمت الشهداء والجرحى في سبيل التخلص من نظام سياسي اعتقد أنه مخلد ولن يزول.

المثير في الثورتين ويدعو إلى الإعجاب صبغتهما السلمية، وابتعادهما عن استخدام العنف والقوة المسلحة. وأن كليهما دعيا وبقوة إلى تأسيس نظام ديموقراطي يقوم على سن دستور يقيم وزنا للحريات وبخاصة حرية الرأي، ويحترم سيادة القانون، وعدم التدخل بل استقلال السلطة القضائية، ويتعهد بإجراء انتخابات حرة يشترك فيها جميع ألوان الطيف السياسي دون استثناء للرئيس ومجلس الشعب بإشراف قضائي ودولي، وحتى تداول سلمي للسلطة.

ما كادت الثورتان تسيران في شوارع تونس وصفاقس والقاهرة والإسكندرية ترفع شعارات تطالب بحرية شعبهما وكرامة العيش له ورغيف الخبز له ومحاسبة الفاسدين ، حتى بدأ المشككون والمرتابون في كلتا الثورتين يعزون التغيير إلى حركة الإخوان المسلمين ويتهمونهم بالتخطيط للإستيلاء على سدة الحكم، رغم أنهم يعلمون أن المراقبين الموضوعيين لم يذكروا وجودا ملحوظا للإخوان المسلمين في الأيام الأولى للثورتين. وكأنهم أرادوا تحريك الفوبيا ضد الإسلام في العالم الغربي. حتى وصل بهم الأمر إلى تفضيل أنظمة دكتاتورية أوليجارشية تسلطية على أنظمة ديموقراطية فيها طيف إسلامي يعترف بان السيادة للشعب وليس لله. وكأن الديموقراطية في نظر هؤلاء، نظام يناسب جميع أقوام الأرض من أوروبيين وأمريكييين وأفارقة وهنود وصينيين وقطعا إسرائيليين، لكنه لا يناسب المسلمين لذا يجب عدم تصديقهم ويبقوا هم الواحة الحقيقية والوحيدة للديموقراطية في المنطقة.

كنت أتمنى أن تنتهي ثورة ميدان التحرير بسرعة انتهاء ثورة الياسمين أو بسرعة ثورة 23 تموز، حتى لا تعطي مجالا لكل العابثين والفاسدين الداخليين والمتآمرين الخارجيين في الإيقاع والتشكيك والتفريق بين أبناء الشعب المصري الواحد، فهذه فرصتهم وهذا تكتيكهم المعهود. فالرماح تأبى التكسر إذا اجتمعت أما إذا تفرقت تكسرت آحادا. ولكن الشعب المصري والجيش المصري عملاقان واعيان لا تنطلي عليهما تلك العبثيات والإشاعات يضمان وليدهما الذي ولد في عراء ميدان التحرير بحب وتعاون بينما البلطجية يردون ويهزمون.

ثورتان ما زالتا في عمر الزهور، لم تينعا بعد ومع ذلك الكل متحسب منهما، ويرصدهما ويحاول توجيههما والتدخل في شئونهما وتغيير مسيرتهما. ثورتان متعانقتان مدنيتان شعبيتان، شكلتا نبراس نور في عتمة الليل العربية وفي غربة الوطن والمواطن، وما زال القادم في خضم العالم العربي أعظم وأخطر. لذا نضع اليد على القلب آملين أن تقيما حكما أنموذجا ديموقراطيا يمثل الأغلبية عبر الإنتخاب، فيه احترام للفرد وحرياته، ينطوي تحت سيادة القانون عبر قضاء نزيه. فيد الله مع الجماعة والإستقامة هي السياسة الفضلى!!

 

ابراهيم شعبان - القدس