جمعياتنا الأهلية شبه زاهدة بخبراتهم... «الجايكويون».. درس ياباني في التطوع!

ربما لا يشكل 87 متطوعاً رقماً كبيراً جداً في خانة الأعداد، لكنه ثقيل في ميزان الواقع السوري، وخاصة أن هؤلاء المتطوعين يمارسون مهامهم عن سابق دراية، اكتسبوها من مؤسسة تفردت بين جميع وكالات التنمية العاملة في سورية باعتماد مبدأ التطوع.
متطوعو جايكا (الوكالة اليابانية للتعاون الدولي) دخلوا إلى سورية منذ ربع قرن، عبر بوابة التعاون في المضمار الرياضي، مدربون للعبتي الجودو والكاراتيه، ولكنهم اليوم يتسابقون للتطوع في ميادين عدة، منها: التثقيف الصحي، رياض الأطفال، تدريس اللغة اليابانية وغيرها.
«الجايكويون» الذين ينتمون إلى بلد مشهور بقدرته على صناعة «أعقد» الأجهزة، تبدو إجاباتهم «أبسط» من المتوقع حينما يتحدثون لـ«الوطن» عن سبب اختيارهم لسورية، ومغزى عودة البعض منهم إلى أرضها وإصراره على متابعة العمل فيها.
«لأنها جميلة.. لأنني أحببتها وأحببت التعامل مع أهلها».. تجيب «جونكو هوشي» التي اختارت العودة إلى سورية بعد انتهاء مهمتها التطوعية الأولى في اللاذقية؛ لتترقى إلى منسقة في مجال تطوير رياض الأطفال.
«هوشي» التي تبدو أكثر من سعيدة بعملها التطوعي، ترى أن الأطفال السوريين لايختلفون في شيء عن أقرانهم اليابانيين من ناحية الذكاء والإدراك، ولكن ما ينقص رياض الأطفال لدينا تطوير طرق التعليم، وهو ما تحاول 34 متطوعة فعله في أكثر من روضة على امتداد محافظات سورية عدة، من خلال نقل وترسيخ تجربة «التعلم عبر اللعب».
أما «تسوجي» فلعودتها إلى سورية رواية أخرى، امتزج فيها حب التطوع بزواج من مواطن سوري، أثمر طفلتين، تتحدثان العربية واليابانية أسوة بأمهما.
«تسوجي» التي لا تخطئ الأذن لكنتها الحورانية وهي تتحدث إلينا، تقول إنها بدأت عملها متطوعة في المجال الرياضي مع أونروا (وكالة غوث اللاجئين)، وها هي اليوم تعمل منسقة له.
وفي حين يتغنى كثير من السوريين بالانضباط الياباني، تغبط «تسوجي» السوريين على «أريحيتهم» معتبرة أن في بلادنا مساحة أكبر لما سمته الحياة الاجتماعية.
ورغم انقضاء مهمتها منذ عشر سنوات أو يزيد، لا يزال ذكر «كاورو» حاضراً، وأياديها البيضاء ماثلة في معهد التنمية الفكرية بقدسيا (ريف دمشق)، فقد اختارت هذه اليابانية العمل التطوعي في مكان كان «يتهرب» من العمل المأجور به كثير من أبناء البلد؛ نظراً لصعوبة التعامل مع حالات الإعاقة الشديدة داخل المعهد، وللظروف الاجتماعية الاستثنائية للمعوقين، لكونهم يتحدرون من آباء غير معروفين.
كثافة نشاط «كاورو» الحقيقي والمبرمج، وإصرارها على معايشة الأطفال المعوقين طوال النهار والليل ضاربة بساعات الدوام القليلة عرض الحائط، لفتا السفارة اليابانية وجهات أخرى فبادرت لتقديم بعض التجهيزات الضرورية للمعهد.
وعند رحيل «كاورو» أحس الأطفال بحرقة الفراق، فبكوها وقاموا -وهم المعوقون ذهنيا- بتعليق صورتها على الجدار، آملين أن تكون الصورة «أبقى» في قاموس الذكرى من نباتات خضراء أحيت بها المتطوعة النبيلة حديقة معهدهم المهملة.
وإذا كان لمتطوعي جايكا طقوس مميزة في التأقلم، من بينها ترك العربية الفصحى التي تعلموها في اليابان وراءهم، مفضلين عليها العامية، فإن «ناكانو» سجل أعلى درجات الاندماج عندما رحل إلى حلب شمالاً، وعايش الأهالي في قرى منبج بطريقة استثنائية، كلّفته تغيير اسمه و«كسمه» وحتى عاداته.
وهكذا تحول «ناكانو» الياباني بين القرويين إلى «نبيل»، الذي يلبس «كلابية»، بل يصوم معهم رمضان، في سبيل أن يحقق مهمته التي جاء من أجلها في تعزيز ثقافة الصحة الإنجابية. ولكن ومع كل هذا الإقبال على العطاء، وفي الوقت الذي تبدو سورية مصممة على تعزيز العمل التطوعي وإعادة ضخ الدماء في عروقه، قد يكون من المفارقات العجيبة أن تستشف من أحاديث «الجايكويين» ما يمكن اعتباره «زهداً» في خبراتهم، من «أهل التطوع» وأكثر المعنيين به، ونقصد بهم الجمعيات الأهلية.
ولأن أبرز شرط لإرسال «جايكا» متطوعا إلى جهة ما، هو وجود نظير سوري له، يتعلم منه وينقل عنه خبراته للآخرين، فقد تعثر التعاون مع جمعيات أهلية في أكثر من مرة، إما لعدم كفاءة هذا الـ«نظير» أو ضعف تخطيط الجمعية وضبابيته بشكل عام.
وكواحد من أبرز الأمثلة، جربت جايكا النزول عند رغبة جمعية أهلية معروفة بإرسال متطوعين اثنين، ما لبثت أن حولتهما إلى جهتين مختلفتين، عندما تبين للوكالة أن طريقة استفادة الجمعية منهما باتت محل تساؤل.
وفي مرة أخرى أظهرت جمعية سورية أخرى حاجتها إلى متطوع «جايكوي»، لكنها لم تكلف نفسها عناء توفير طاولة أو كرسي له، بل إن أياً من أعضائها لم يكن على استعداد لفتح أبواب مقر الجمعية المغلقة؛ لأن جميع هؤلاء الأعضاء -ببساطة- «موظفون» في أماكن أخرى!
أما «الجايكويون» فإن أشد ما ينغص عليهم عملهم أن تتم معاملتهم كموظفين، وهم الذين أتوا إلى هنا كشركاء لنقل الخبرة وتبادل المعارف، كما يقولون، مؤكدين أن هذا المنغص لا يمكن أن يطغى على سعادتهم التي تتراءى من خلال تجديدهم لمدد خدماتهم، وعودتهم شخصياً، أو تحفيزهم لآخرين من مواطنيهم على شد رحال التطوع إلى سورية.
بقي أن نكشف أن «الجايكويين» الذي التقتهم «الوطن» في مقر وكالتهم بدمشق، تحفظوا بشكل صريح على التقاط صور شخصية لأي منهم، وكان من الفضول غير المحمود أن نسألهم عن السبب، ونحن نرى بأم أعيننا كيف تبدد شمس العطاء كل حُجُب الأنا مهما تكاثفت.
جريدة الوطن