جولة في انتقائية واشنطن وازدواجيتها

الأصل في القائمة الأمريكية السوداء للدول الراعية للإرهاب ، أنها تضم الدولة المتورطة في دعم مباشر أو غير مباشر لحركات ومنظومات وشخصيات إرهابية.. تندرج الدول ، أو بالأحرى تُدرَج على هذه القائمة إن ثبت تورطها في عمل كهذا ، وترفع منها ، أو تنزع عنها هذه "التهمة" إن لم يثبت ذلك ، أو إن كفت الدولة عن تورطها في أمر كهذا.. هذا ببساطة ، ومن دون الدخول في تعقيدات تعريف الإرهاب.
أما أن تُدرج الدول ، في القائمة السوداء للدول المارقة ، ولا ترفع منها أو تنزع عنها هذه الاتهامات ، لأسباب تتصل بالخلافات السياسية بين واشنطن والنظم الحاكمة في هذه الدول ، فهذا أمر غير مفهوم وغير لائق وغير اخلاقي.
خلال اليومين الفائتين ، استمعنا إلى مسؤولين أمريكيين كبار يَعًدون نظام الخرطوم برفع اسم السودان من "اللائحة السوداء للدول الراعية للإرهاب" ، إن هو اعترف بنتائج استفتاء الجنوب.. لا احد في واشنطن قال إن هو كفّ عن دعم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" أو أوقف دعمه "للشباب المجاهد في الصومال".. لا أحد قال ، أو كلّف نفسه عناء البحث عمّا إذا كان للسودان علاقات حقيقية مع "فصائل إرهابية" أم أن الأمر برمته ، "فريّة" أُلبست له وأُلحقت به ، والهدف تحقيق مآرب في أماكن أخرى: تقسيم السودان.
أنت "إرهابي" وستظل كذلك.. ستطاردك العقوبات والحظر والحصار ، إن أنت استمسكت بوحدة بلادك.. ولكنك تصبح "عنصر استقرار" و"دولة محل رعاية" إن أنت قبلت بتشظّيها وتمزيقها إلى كيانات متناسلة.. أنت مطارد من قبل محكمة لم تعترف بها الولايات المتحدة ، ورفضت ميثاقها وعضويتها ، طالما أنت مخالف للسياسة الأمريكية ، أما حين تجنح للتوافق مع مقتضيات هذه السياسة ، فإن المحكمة والمدعي العام ، قد يذهبان إلى الجحيم ، لا احد يكترث.
هذه العلاقة الشرطية بين "رفع اسم السودان من القائمة السودان" واعتراف الخرطوم بانفصال الجنوب ، تنهض شاهداً على الاستخدام البشع لأدوات الحرب على الإرهاب لتحقيق "مآرب أخرى".. وتنهض كدلالة على "الأجندات الخفية" للحرب الأمريكية على الإرهاب ، وبخلاف ذلك ، ما كان لواشنطن أن تضع شرطاً كهذا ، او تتقدم من الخرطوم بطلب من هذا النوع.
وليس مستبعداً أبداً ، أن نرى "أوكامبو" يقدم اعتذاراته للرئيس عمر حسن البشير على "سوء الفهم" الذي وقع بينهما.. أو أن يقال مثلاً ، بأن طلب تسليمه لمحكمة الجنايات الدولية كان خطأ ناجماً عن "تشابه في الأسماء"..
علينا أن نتوقف قليلا أمام قائمة الطلبات الأمريكية اللاحقة من الخرطوم لنعرف كيف سيتصرف أوكامبو ، وما إذا كان سيبقى في مكتبه ، أم سيتقدم باستقالته للرئيس البشير أو لبان كي مون ، أو لغيرهما.. لا فرق؟، ولكي تكتمل فصول المفارقة وتأخذ أبعادها الدرامية ، فقد تزامن العرض الأمريكي للخرطوم ، مع قيام وزيرة الخارجية الأمريكية بتجديد تأكيدها على الاستمساك بالمحكمة الخاصة برفيق الحريري ، وهو الموقف الذي أطاح بالجهود السعودية - السورية المشتركة التي رمت إلى احتواء آثار المحكمة والقرار الظني بقضية اغتيال الحريري ، مقامرةً - أي كلينتون - بتأزيم الوضع اللبناني ووضع البلاد من جديد على حافة الهاوية ، وهذا ما حصل على أية ، حيث استقال وزراء المعارضة في الحكومة ، وسقطت حكومة الحريري الأولى ، وحبس اللبنانيون أنفاسهم على وقع التهديد بتصعيد حدة التوتر والمواجهات الأهلية.
هي انتقائية وازدواجية غير مسبوقتين في السياسة والعلاقات الدولية ، تقدم عليها الدولة الأعظم ، مهددة سلم العالم وأمنه واستقراره ، بل ومجازفةً بأرواح المئات والألوف من الأبرياء ، من دون إحساس كافْ بالمسؤولية التي يمليها موقع الدولة الأعظم.
وتبلغ الانتقائية والازدواجية ذروتيهما عند النظر إلى الموقف الأمريكي من قضية "الاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من حزيران "67 ، فالولايات المتحدة تعارض أية خطوة أحادية في هذا الاتجاه ، وهي التي أيدت الخطوة الأحادية التي اتخذتها كوسوفو عند إعلان استقلالها..
والولايات المتحدة ترفض إخضاع الضفة الغربية وقطاع غزة لوصاية دولية انتقالية ، وهي التي رعت انتقال تيمور الشرقية إلى الاستقلال بعد سنوات ثلاث من الانتداب الأممي الانتقالي.. وهي ترفض "الاستفتاء" حول تقرير المصير في فلسطين ، وهي التي جعلت من الاعتراف بنتائج الاستفتاء حول جنوب السودان ، شرطاً لازما للإفراج عن السودان شعباً ودولة ورئيسا وكياناً.. ويسألونك بعد ذلك لماذا يكرهوننا؟
عريب الرنتاوي - الدستور "الاردنية"