جوليـا بطـرس علـى مسـرح «بلاتيـا» - القضية تغني

صعّبت جوليا بطرس على جمهورها مساء السبت حضور أمسيتها عندما اختارت أن تحيي أمسية وحيدة نفدت بطاقاتها قبل أيام من حفلتها «يوماً ما» التي قدمتها على مسرح «بلاتيا»، ساحل علما.
ثم كيف لمن حضر أن يصف مشاعر فرح مجبولة بحزن دفين؟ وكيف يروي عن نكش جوليا في ذاكرته عن وطن جميل ظن أنه ذهب ولن يعود؟ وهل ترى بعضهم يجرؤ أن يطلع أصدقاءه كيف غنى للجنوب بملء حنجرته مع أنه قادم من الشمال؟ وهل سيستطيع وصف كل تلك الروعة في فنها وقوة الحضور في أدائها، في زمن قلّت فيه الثقافة في الأمسيات الغنائية وقلّ فيه الرقي والمشاعر النبيلة؟ المهمة صعبة حتماً، لكنها ليست مستحيلة، فجمهور جوليا «الحرية» معتاد أمسياتها هذه ومعتاد رقي أدائها وقوة حضورها. صاحبة «غابت شمس الحق» لها باع طويل في هذا المجال هي التي وقفت بعمر السابعة عشرة أمام جمهور بالآلاف بكت لبكائهم وغنت لقضيتهم، وتابعت معهم كل محطات لبنان الوطنية. واليوم عادت جوليا (مواليد 1968) مع جمهورها «المقاوم» لتغني معه، وتبكي معه وتدغدغ مشاعره الدفينة وتحرك ذاكرته المهملة، فتدعوه إلى حب وطن يخترقه الأسى، الجهل والفقر، وتؤكد نهجاً وخطاً طالما خشي جمهورها أن تحيد عنهما فلم تخيّب ظنه كعادتها.
الأمسية التي أطلقت بها جوليا ألبومها الغنائي الحادي عشر «يوماً ما» شاركتها فيها الفرقة الفلهارمونية لمدينة براغ يقودها هاروت فازليان إضافة إلى كورس «الجامعة الأنطونية» بإدارة الأب توفيق معتوق، فأدى خمسة وثمانون موسيقياً مع جوليا حفلاً راقياً غنياً موسيقى وكلاماً، قدموا فيه مجموعة من ريبرتوارها الغنائي المميز، إلى جانب أغنياتها السبع التي يشملها الألبوم، وهنا لا بد من الإشارة إلى هندسة الصوت التي تميزت في الحفل، التي جعلتنا نشعر كأن الحفل مسجل ومعدل، لكثرة نقاوته ووضوحه، إضافة إلى الإتقان والضخامة اللذين يتميز بهما مسرح «بلاتيا».
حماس الجمهور
بدأت الأمسية بأغنية «يوماً ما»، وبدأ حماس الجمهور منذ إطلالة جوليا على المسرح بفستان أسود محتشم لتؤكد به خطها الواضح المتألق، كان الاختيار موفقاً لأغنية تجمع الحب بالوطن الراهن «المشحون»، فغنى معها جمهورها الأغنية بالرغم من أنها لم تطرح بعد في الأسواق إلا عبر مواقع التواصل الاجتماعي واليوتيوب. الأغنيات المنتقاة من ريبرتوار جوليا كانت موفقة بمجملها، فالجمهور متشوق أيضاً لسماع «على شو» و«انتصر لبنان» و«يا قصص» التي أدتها بتوزيع جديد أضاف إليها مزيداً من الجمالية، ولم يقلّ حماس الجمهور بأداء جوليا من أغاني ألبومها الجديد فـ «يا ما شالله» و«بتعرف شو الحلو فيك» و«اسود الليل» وغيرها أيضاً لها جمهورها العريض الذي بدا وكأنه حفظ عن ظهر قلب كل تلك الأغاني وأكثر، ولو أنه قبل بدء الأمسية كان الجمهور متحمساً لمعرفة برنامج الأمسية والأغنيات التي ستقدمها جوليا في الحفل، لكن «شو ما غنت حلو» يقول أحد الحاضرين. كان لافتاً ومؤثراً غناء جوليا لأغنيتها «حبيبي» (2008) التي أهدتها لزينة قاسم التي فقدت ولدها طلال (17 عاماً) بحادث سيارة، وأهدت كلماتها إلى طلال ولفتت إلى عقوبة سائق السيارة التي لم تتجاوز الأربعة أشهر، وقد شاركت جوليا الأغنية مجموعة من الأطفال أضاؤوا شموعاً وما لبثوا أن شاركوا جوليا أيضاً أغنية «أطفال» (كلمات غيا حداد) المهداة إلى أطفال فلسطين، وبدت جوليا متأثرة جداً فأبكت الكثير من الحاضرين. وأشعلت الجمهور بغنائها «بتنفس حرية» و«نقاوم» من ألبومها الجديد الموجهة إلى الجنوب (كلمات جواد نصر الله)، وكانت جد موفقة بالميدلي الغنائي الذي جمعت فيه أشهر أغاني الحب التي قدمتها على مدى ربع قرن، فجمعت بين «لما التقينا» و«كرمالك» و«أخد القرار» و«بصراحة»، ولم تهمل جوليا أغنية «وين مسافر» التي تعكس بطريقة أو بأخرى إحساسها الصادق بقضية كل لبناني له في الغربة قريب أو أكثر.
نعمة السماع
وختمت جوليا أمسيتها بأغنية «أطلق نيرانك» التي تشبه إلى حد بعيد أسلوبها الغنائي الذي بدأت فيه في الثمانينيات، وكان لافتاً مشاركتها الغناء عناصر من الجيش اللبناني الذين نزلوا على المسرح بطريقة استعراضية جميلة حاملين الأعلام اللبنانية، ما يمكن وضعه في خانة الردّ على الهجوم الذي تعرّضت له جوليا على هذه الأغنية بالتحديد، حيث انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي وبعض المجلات اتهام جوليا بغنائها «أطلق نيرانك» للجيش السوري.
لم يرض الجمهور أن تنتهي أمسية عنوانها الحب ورايتها الوطن بهذه السرعة، فصرخ ونادى لتعود فنانته التي يعدّها صدى صوته، فعادت جوليا لتغني «على ما يبدو»، إلا أن هتافات الجمهور المتعطش للمزيد لم تهدأ إلا بغنائها «احبائي»، الأغنية التي جعلتها مشروعاً لقضيتها «المقاومة والجنوب».
في كل مرة تلتقي جوليا بجمهورها يغني ذلك الأخير ويشتعل حماساً ليؤكد لها مرة جديدة أنها تبقى رمزاً لقصة الحب والفراق، الظلم والأمل، المقاومة والانتصار، ولكن اعذري جمهورك يا جوليا إذا لم يصفق لك طوال الساعتين التي قدمت فيهما إبداعك، لأنه في كل ثانية ساد هدوؤه فيها كان يخشى أن يخدش فيها صوتك الجميل، أو أن تضيع عليه نعمة سماع فن راق ملتزم مؤمن بقضية هي قضيته أيضاً، فأنت تحملين معه حتماً كل آلامه الوطنية، وكل مشاعر الحب والشوق والفرح، وتجسّدين لحناً ونغماً وصوتاً ذلك الزمن الجميل الصعب فتحاكينا ونحاكيك ويبقى صوتك فينا.
شام نيوز - السفير