جيل الراديو

في طفولتي الأولى كنت أنظر إلى الراديو على أنه صندوق للأغاني يتحدث بين وقت وآخر بكلام غير مفهوم يصغي إليه الكبار وهم يهزون رؤوسهم برزانة! وعندما بلغت الثامنة من العمر، وقع العدوان الثلاثي على مصر العربية، فانكشف عني الغطاء فجأة، إذ اكتشفت أن الراديو هو شاهد على ما يجري في العالم من أحداث. يومها لم أفهم كيف يمكن لهيئة الإذاعة البريطانية أن تغطي أخبار الحرب كما لو أن بلدها بريطانيا ليست طرفاً فيها، وقد أوضح لي ابن عمي حسن منصور رحمه الله، أن الإذاعة البريطانية ليست تابعة لحكومة بلادها، وأن حكومة بريطانيا تتهمها بـ«تجاهل المصالح الوطنية» وتطالب بوضع اليد عليها. وعندما خرجت الإذاعة البريطانية من تلك الأزمة منتصرة على الضغوط الحكومية أصبحت أحلف بحياتها وأنام بلا عشاء.
صحيح أن مصداقية تلك الإذاعة قد تزعزعت في داخلي عقب حرب الخامس من حزيران، وتضعضعت أكثر خلال حرب المالفيناس بين الأرجنتين وبريطانيا عام 1982، لأنني كنت قد أصبحت إعلامياً يفهم ما خلف الكلمات ويقرأ مابين السطور، إلا أن البي بي سي بقيت بالنسبة لي أحد المصادر الأساسية الموثوقة للخبر.
قبل أيام اتصل بي الزميل عساف عبود مراسل هيئة الإذاعة البريطانية في دمشق، وطلب مني أن أبدي رأيي، من خلال برنامج (رأيكم)، بالبرامج الإذاعية والتلفزيونية التي تبثها هيئته. واحتراماً لزمالتنا القديمة وللجهد الذي يبذله عساف لتقديم تغطية شبه متوازنة للأحداث المأساوية التي تشهدها سورية، فقد وافقت.
قلت خلال التسجيل أنه ثمة مفتاحان أساسيان للذكريات الممتدة على مدى عمري: الأول هو صوت فيروز، والثاني هو دقات بيغ بين، ما يجعل البي بي سي بمنزلة ضابط إيقاع لمختلف مراحل عمري.
توقفت عند بعض البرامج الحوارية، ووجهت تحية لذكرى حسن الكرمي صاحب برنامج «قول على قول» الذي أغنى ثقافة أجيال من الشباب العربي، بعدها تحدثت عن حرب النفط التي نعيش إحدى معاركها في هذه الأيام، هذه الحرب الذي قام اللورد فيشر وزير الحربية البريطاني بالإعلان عنها قبل مئة وأحد عشر عاماً عندما أطلق عبارته الشهيرة سنة 1901: (استعدوا لحرب النفط).
صحيح أنني كإعلامي أثق كلياً بصحة مقولة «اقرأ الافتتاحية لتعرف من هو السيد»، فكل وسائل الإعلام تعبر بدرجات متفاوتة عن وجهة نظر من يمولونها. إلا أنني كنت أظن أن الإذاعة البريطانية بصفتها أقدم إذاعة في التاريخ ستكون جنرالاً في حرب النفط التي نعيش أحدث معاركها هذه الأيام. لكن ما جرى خلال العام الماضي أثبت بوضوح أنها ليست جنرالاً، بل هي مثل سواها من المؤسسات الإعلامية لا تعدو كونها بيدقاً لا غير. أخيراً أعلنت أن بي بي سي هي آخر الخيبات الكبيرة في عمري.
مساء الجمعة اتصل بي الزميل عساف عبود وأبلغني أن الحلقة سيبدأ بثها في السابعة والنصف، وعندما شاهدت نفسي في البرنامج لم أفاجأ، إذ وجدت أن صاحب السعادة (الرقيب) في الـ«بي بي سي» لم يترك من كلامي سوى ماجاملتهم به!
شكراً بي بي سي لأنك أثبت لي أن «الديمقراطيه والشفافية وحقوق التعبير» مصونة لمن يجاملونكم فقط!