حضرات ومتصوفون وقصص غريبة حول ضريح محي الدين ابن عربي

شام نيوز- تيسير أحمد
قبل أن تصل إلى ضريح ومسجد "الشيخ الأكبر" محي الدين ابن عربي ، في صالحية دمشق ، لابد أن تجتاز مسالك صعبة ، مكتظة بالعابرين ، صنعتها عربات الباعة ، والبضائع المكدسة أمام المتاجر الضيقة، فسوق "الجمعة" أو"سوق الشيخ محي الدين "كما يحلو للكثيرين أن يسمّوه ، واحد من أشهر أسواق دمشق اليوم ، وأكثرها ازدحاماً. وفي الطريق إلى ضريح "حكيم مرسيّة" تقرأ اسم "الشيخ الأكبر" كعلامة تجارية ، من قبيل : " مطبخ وحلويات الشيخ الأكبر " ، " فروج الشيخ الأكبر" ،"مطعم الشيخ الأكبر".. الخ وكأن قطب الصوفية الكبير لم يكن زاهداً في الدنيا ومتعها!
على مقربة من مدخل المسجد تلمح نساءً من مختلف الأعمار يوزعن الخبز والطعام على بعض الفقراء المنتشرين قرب الضريح ، وهناك نساء أخريات يدفعن ثمن مقدار معين من الخبز لأحد الأفران المجاورة حيث يقوم بعض أهل الخير بإيصاله لأسر "مستورة" . وكل ذلك وفاءً لنذور ، أو صدقات، يأملن أن تقبل"بكرامة الشيخ محي الدين". إذ على الرغم من وجود أضرحة ومقامات للعديد من الصحابة ، والأولياء المشهورين ، في دمشق وما حولها ، إلاّ أن العامّة لا يقصدون بالزيارة والتبرك ، إلاّ ضريحين اثنين : ضريح النبي يحيى (يوحنا المعمدان) في الجامع الأموي ، وضريح الشيخ محي الدين ابن عربي في الصالحية . وعندما تحاول أن تسأل عن السبب لا تحصل على جواب شافٍ أو مقنع .
الرحلة إلى الشرق
ولد أبو بكر محمد بن عربي الحاتمي الطائي ، في مرسيّة جنوبي إسبانيا سنة 560 للهجرة الموافق لعام 1165 للميلاد، لقب بالشيخ الأكبر ، وكني بمحي الدين ، نشأ في إشبيلية ، وتلقى علومه الأولى فيها ، وحيث وفرت له أسرته الميسورة حياة مريحة وهنيئة . راح ابن عربي وهو بعد فتى متوقد الذكاء يطوف بين مختلف مدن الأندلس ويقابل العلماء أين عثر عليهم، وحدث أن التقى بابن رشد في قرطبة خلال إحدى رحلاته تلك ، وقد وثق ابن عربي وقائع ذلك اللقاء في مؤلفه الضخم الفتوحات المكية ، كما ذكر شيئاً عن جنازة ابن رشد .
وقضى ابن عربي حياته حتى عام 595 (1198) بين شتى مدن الأندلس وشمال إفريقية في مقابلة المتعبدين وكان أحياناً يعقد المناظرات مع الجماعات المختلفة ، كالمعتزلة وقد اتسع نطاق سفره حتى بلغ تونس ، كما زار المريّة أيضاً ، وكانت مركزاً لابن مسرّة وهناك على حد قول آسين بالاثيوس : "بدأ ابن عربي رسمياً دراسة التصوف ".
منمنمة تركية للشيخ محي الدين ابن عربي على كتاب فرنسي
في عام 598 (1198) هاجر ابن عربي إلى الشرق وبدأت فترة جديدة في حياته ، فحج إلى مكة ، حيث "أمر" بالشروع في تأليف الفتوحات المكية ، وبعدها طاف في مدن الشرق العربي كالقاهرة والموصل وبغداد ، وحلب ، ودخل في مجادلات مع الفقهاء عرضت حياته للخطر . وأخيراً قرر ابن عربي في سنة 609 (1223) أن يستقر في صالحية دمشق، بعد أن طبقت شهرته العالم الإسلامي قاطبة ،وسط حي المدارس ، الذي أسسه في القرن السادس الهجري بنو قدامة ،المقادسة الذين أتوا إلى دمشق هرباً من الصليبيين ،حيث أصبح الحي في العهدين الأيوبي والمملوكي ، مدينة للعلم و أكبر تجمع أكاديمي في القرون الوسطى ، فقد أراد ابن عربي بعد حياة تجاذبتها الأسفار أن يقضي سنواته الأخيرة بهدوء وسلام ، وفي العمل المتواصل أيضاً ، حيث أتم "الفتوحات المكية " الذي يحتوي على اليوميات الروحية لثلاثين سنة ، هي أخصب الفترات في حياته ، وتوفي في دمشق سنة638(1240) ، فوري ثرى الصالحية عند سفح قاسيون شمال دمشق ، في تربة ابن الزكي . تاركاً وراءه عدداً هائلاً من المؤلفات يتجاوز الأربعمائة ، تبدأ من الرسائل الصغيرة ، والخطابات المكونة من بضع صفحات إلى" الفتوحات المكية "الضخم ذي المجلدات العشرة، ومن المقالات الفلسفية المجردة إلى الأشعار الصوفية.
تكريم عثماني
قبل أن يبني السلطان سليم العثماني هذا المسجد على ضريح الشيخ الأكبر ، كان المكان مهملاً ، لا بل يقول البعض أنه كان مكباً للنفايات ، أما هذه القدسية عند العامة للمكان فلم تنشأ إلاّ بعد أن أمر السلطان العثماني ببنائه ، وتعهده بالرعاية والاهتمام هو ومن أتى بعده من سلاطين وولاة .
صحن مسجد الشيخ محي الدين
تذكر كتب التاريخ أن من صمم المسجد هو المهندس شهاب الدين بن العطار ، وساعده في استملاك الأرض والإشراف على البناء القاضي ولي الدين ابن الفرفور ، وقد وضعت الخطوط الأساسية للبناء في 26 رمضان سنة 923 للهجرة ، وبوشر بالبناء في 26 رمضان ، بعد أن اشتريت الأرض والبيوت المجاورة وهدمت كما هدمت المقبرة التي كانت هناك لحفر أساسات القبة .
وفي آخر ذي القعدة من العام نفسه ، ارتفعت أعمدة الجامع التي نقلت من دار السعادة المملوكي ، ونصب المنبر في 24 المحرم من سنة 924 ، وصليت في الجامع أول صلاة للجمعة وخطب ابن الفرفور بحضور السلطان سليم الذي حضر إلى دمشق لهذه المناسبة ، أي أن البناء لم يستغرق أكثر من أربعة شهور .
وبني مقابل الجامع تكية للفقراء ثم وسع المسجد من الشمال بعد إزالة مسجد كان هناك وعين الملاّ عثمان الحنفي التركي للخطابة ، والمؤرخ ابن طولون للإمامة ، وأحمد الأوغاني لمشيخة التكية ، كما عين ثلاثون قارئاً يقرأون كل يوم ختمة ، وغدا الجامع من أجمل مساجد دمشق ’ كما يقول أمامه ابن طولون ، وقد نقش عليه بيت من الشعر يؤرخ تاريخ بنائه وهو :
سليم بنى لله خيراً ومسجداً قد تم في تاريخه خير جامع
الناعورة
وعلى مقربة من المكان ما تزال ناعورة المسجد قائمة بعد أن توقفت عن العمل نهائياً عام1908 عندما بدأت مصلحة المياه العثمانية ،بضخ مياه عين الفيجة ، إلى المنطقة بعد أن اضطلعت الناعورة بهذه المهمة نحو أربعة قرون كانت ترفع فيها المياه من نهر يزيد إلى المسجد والتكية دون توقف.
ناعورة الشيخ محي الدين
ولكن لماذا اهتم سلاطين بني عثمان بابن عربي ، وأحاطوه بهذا الاهتمام ؟
يعتقد بعض الباحثين أن السبب في ذلك يعود إلى اهتمام السلاطين العثمانيين ، بالتصوف ، فمعظمهم
كان من أتباع الطرق الصوفية ، التي ازدهرت في عهدهم ، وآخرهم السلطان عبد الحميد الذي كان من أتباع الطريقة الرفاعية. إضافة إلى رغبتهم في إعطاء بعد ثيو قراطي لحكمهم .
أما سيرة " الشيخ الأكبر" فتخبرنا : أنه طاف في الأناضول خلال رحلته المشرقية ، وفي مدينة قونية التقى بصدر الدين القونوي ، تلميذه المشهور الذي أصبح أعظم الشراح والدعاة لآثاره في الشرق . وربما من هنا أتى اهتمام السلطان سليم بضريحه . نظراً لمكانة القونوي لدى الأتراك . وقد لاحظ المؤرخون منذ القدم اهتمام الأعاجم به كما ذكر المؤرخ ابن طولون في كتابه " القلائد الجوهرية في تاريخ الصالحية " إذ يقول :" واختلف الناس قديماً وحديثاً في ابن عربي هذا ، ففرقة تعتقد ولايته وتقصده بالزيارة وتعده من الأقطاب وهم غالب الأعاجم (الفرس) وجميع الأروام (الأتراك) وفرقة تعتقد ضلاله وتعده مبتدعاً اتحادياً كافراً وهم غالب فقهاء أبناء العرب . وفرقة شكّت في أمره ، وفرقة سكتت عنه وجعلت أمره إلى الله " .
لقد اختلفت الآراء حول ابن عربي بين مغال في مدحه ن وبين متهم له ، وقد قال عنه ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية" : " صنف الفتوحات المكية وفيها ما يعقل وما لا يعقل ، وما ينكر وما لا ينكر ، وما يعرف وما لا يعرف ، وله كتاب اسمه "فصوص الحكم" فيه أشياء كثيرة ظاهرها كفر صريح ".
لا شك في أن أكثر كتب محي الدين ابن عربي تداولاً بين القراء هو "فصوص الحكم" الذي يعتبر بمثابة وصيته الروحية ،حسب الباحث الإيراني سيد حسين نصر ، فالعنوان يرمز إلى محتوى الكتاب، كل فص يحتوي على جوهرة ثمينة ترمز إلى جانب من الحكمة الإلهية؛ أوحي إلى نبي من الأنبياء . وعلى سبيل المثال ، فإن كل فص عبارة عن الطبيعة البشرية والروحية لأحد الأنبياء ، تقوم بدورها كأداة لأداء ناحية معينة من الحكمة الإلهية الموحاة إلى ذلك النبي .
حكايات غريبة!
الآن يتواتر العامة قصصاً غريبة عن ابن عربي وقدراته ، تتجاوز حدود العقل والمنطق ، ولعل أشهرها قصة لقائه بابن الفارض في بغداد ، ثم في دمشق ، حيث ظهر ابن عربي لابن الفارض في أربعين شكلاً . أو قصة مزعومة عن تنبؤه بأن السلطان سليم العثماني هو الذي سيبني مسجداً على قبره ،وهي قوله : "عندما تدخل السين(سليم) بالشين(شام) سيظهر سر محي الدين . ولعل القصة الأشهر هنا هي قصة قتله ، عندما قال للناس: "معبود كم تحت قدمي "، فهاجوا عليه وقتلوه قبل أن يتبين أحدهم أن في المكان الذي وقف فيه الشيخ ديناراً من الذهب . علماً أن ابن عربي مات على فراشه ميتة طبيعية ، وكانت جنازته حسنة كما يقول المؤرخ ابن كثير .
وقد روى لنا أحد الباعة المكتظين في المكان قصة أغرب من الخيال جمع فيها الشيخ محي الدين بالسلطان سليم العثماني (الفارق الزمني بينهما ثلاثة قرون) ، حيث قام الشيخ بتحويل رجل إلى امرأة تنجب أربعة أولاد ، ثم إلى رجل ينجب ثلاثة أولاد وكل ذلك على رقعة الشطرنج ، وفي وقت احتفظت فيه قهوتهما بحرارتها !!!
ضريح الشيخ محي الدين
قرب قبر الشيخ الأكبر يشاهد الزائر قبر ولديه سعد الدين وعماد الدين، وقبر الأمير عبد القادر الجزائري ، الذي قضى بقية عمره بعد أن نفاه نابليون الثالث في إعداد آثار ابن عربي للنشر ، فقد كان من أتباع طريقته ، ومن أشد المتحمسين لجمع وطبع آثاره. وقد نقلت رفات الأمير إلى الجزائر بعد استقلالها .
لقد احتفظ جامع الشيخ محي الدين ، بالكثير من معالمه القديمة ، كالأعمدة ، والمآذن ، والجدران المزخرفة والمزينة على الطريقة العثمانية القديمة ،إلاّ أن الزلازل والكوارث الطبيعية كانت قد أصابت أجزاء منه بالتلف ، وكان يعاد بناؤها من جديد ، ولعل آخر تجديد في هذا المسجد كان في عام 1947 عندما تم توسيع الصحن ، حيث يلحظ الزائر أن نصف المسجد مغرق في قدمه ،ونصفه الآخر حديث نسبياً ، ولعل الأعمدة خير ما يبرهن على هذا الكلام فالخلفية منها مازالت على قدمها ويظهر ذلك من نوعية الصخر والتيجان الكورنتية ، على العكس من الأعمدة الأمامية ذات الحجارة الحديثة والتيجان المصنوعة من الجبس . أما الواجهة والمئذنة فقد بقيتا على قدمهما ، وروعي عند ترميمهما بعد الزلازل أن يحافظا على شكلهما كما بني للمرة الأولى .