حكاية الكتب والمكتبات الدمشقية في ألف عام

تيسير أحمد – شام نيوز
من يزر مكتبة الأسد الوطنية ويطلع على حجم الكتب والمخطوطات المتوفرة فيها، يعجب من أمر هذه المكتبة العظيمة، التي تعد بحق واحدة من أهم مكتبات العالم، وتضارع في أهمية كتبها ومخطوطاتها العربية أهم مكتبات الاستشراف في العالم الغربي.
ولكن ما قصة هذه المكتبة ومن اين لها كل هذه النفائس؟ إن تاريخ مكتبة الأسد الوطنية هو امتداد لتاريخ المكتبات في دمشق منذ ألف عام عندما تأسست المكتبة العمرية في الصالحة تلتها المكتبة الضيائية، مروراً بتأسيس المكتبة الظاهرية، أول مكتبة في العالم العربي والإسلامي على النمط الغربي الحديث، وصولاً إلى مكتبة الأسد الوطنية مفخرة دمشق الثقافية.
جمعية المكتبة العمومية
لولا سعي الأمير طاهر الجزائري لدى والي دمشق مدحت باشا، لما بقي أي من المخطوطات النفيسة التي كانت خزائن مدارس وعائلات دمشق العريقة تحفل بها.
ففي نهايات القرن التاسع عشر توالت حوادث سرقة المخطوطات التي أثارت ضجة علماء دمشق ووجهائها، مما حدا بالوالي العثماني مدحت باشا بتشكيل لجنة برئاسة مفتي دمشق محمود أفندي حمزة، وعضوية كل من الشيخ علاء الدين عابدين والشيخ سليم العطار والشيخ محمد المنيني والشيخ أحمد مسلم الكزبري، وسماها "جمعية المكتبة العمومية".
الشيخ طاهر الجزائري
وقد جمعت هذه اللجنة في "المدرسة الظاهرية" التي أصبحت مكتبة عمومية من خزائن الكتب بدمشق (2453) كتابا منوعة عدا الدشت والكراريس والأوراق المتفرقة.
وقد أخذت كتب المكتبة الظاهرية من عشر خزائن وهي: ما تبقى من خزانة المدرسة العمرية وهي أهم هذه الخزائن وأنفسها، وخزانة مدرسة عبد الله باشا العظم، وخزانة سليمان باشا العظم وخزانة الملا عثمان الكردي، وخزانة مدرسة الخياطين التي وقفها أسعد باشا العظم، وخزانة المرادية، وخزانة المدرسة السميسطائية، وخزانة الياغوشية، وخزانة الأوقاف، وخزانة بيت الخطابة في الجامع الأموي ومن كتب أخرى موقوفة.
مدحت باشا
نص قرار مدحت باشا
وهذا نص قرار مدحت باشا بتأسيس المكتبة الظاهرية:
"لما كانت الكتب الموقوفة والمشروطة لاستفادة العموم قد حصرت بأيدي المتولين وحرمت الناس من مطالعتاه صدر الأمر الجليل من ملجأ الولاية، وأعطي قرار من طرف مجلس الإدارة توفيقا للتقرير المتقدم من هؤلاء العاجزين المؤرخ في 15 شباط سنة (1295) على أنه يجري جمع الكتب والرسائل الموقوفة الكائنة تحت أيدي المتولين ووضعها بخزانة مخصوصة عمرت وأنشئت بتربة الملك الظاهر في المحل المخصوص المعمر لأجل ذلك جوار تربة السلطان صلاح الدين لأجل أن تصير المنفعة عمومية، ولا يحرم من الاستفادة والمطالعة التي هي أجل مقاصد الوقف بل لأجلها وقف ويتأسس بذلك مكتبة عمومية".
على عربات القمامة!
عندما سمع ناظر المدرسة العمرية بقرار مدحت باشا، انتقى أحاسن كتبها ونقلها إلى داره وأبعد جميع الحمالين من جهة الصالحية، فعندما وصلت اللجنة المكلفة من الوالي لم تجد رجلاً واحداً يحمل الكتب حتى استعانوا بدواب القمامة، ونقلوا ستمائة مجلد خطي ومجموعة كبيرة من الدشت ".
تعد المكتبة العمرية من أهم مكتبات دمشق وغيرها من مكتبات البلاد الاسلامية، فقد اجتمع فيها أهم الكتب الإسلامية، وكان كثير مما يدرس أو يتعلم أو يؤلف كتابا فيها يوقفه في هذه المدرسة حتى اجتمعت فيها ألوف الكتب التي قلما يخلو كتاب منها من إجازات وسماعات بخطوط العلماء مما يجعل لها قيمة علمية وأثرية.
وزاد أهميتها أن المدرسة الضيائية التي أنشأها ضياء الدين المقدسي كان لها مكتبة هي أعظم وأهم مكتبة في دمشق، فقد جاب الضياء المقدسي الذي عاصر نور الدين محمود بن زنكي، أقطار العراق وبلاد العجم والقطر المصري وانتقى أحاسن الكتب وأجودها، فكان إذا رأى ما أعجبه لم يفلته من يده ويبذل كل جهده للحصول عليه، سواء أكان بالاستهداء أم بالشراء، أو بالنسخ حتى اجتمع له ما لم يجتمع لغيره، وأوقف هذه الكتب على مدرسة أنشأها في سفح قاسيون، فكان مما فيها من أوراق بخطوط الأئمة الأربعة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل. وكان فيها مخطوطان للتوراة والإنجيل قديمان بالخط السرياني الاسطرنجيلي على ورق غزال، ولا تزال بعض أوراق منهما محفوظة في دار الكتب الظاهرية.
ما تبقى من بناء المدرسة العمرية
لصوص الكتب
وقد بدأت الكتب تتسرب منها بمختلف الوسائل والطرق. وهو ما لخصه الشيخ محمد أحمد دهمان في كتابه "في رحاب دمشق": "أن جماعة من نجد جاءوا إلى دمشق سنة 1250 هجرية وقدموا لناظر العمرية مالاً على سبيل الرشوة، فساعدهم على سرقة أربعة أحمال من الجمال من كتب المدرسة نقلوها ليلاً إلى دار أحد الحنابلة في دمشق، فصادر نصفها لنفسه وذهب الآخرون بالباقي، ولا يزال بعضها إلى اليوم وعليه وقف العمرية.
ومما يروى أن الوراق المصري الشهير محمد أمين الخانجي، كان أحد الذين تولوا شراء مخطوطات المدرسة العمرية من نظّارها وبعض لصوص المخطوطات في بداية هذا القرن، وقد قام الخانجي ببيعها للعلماء ولدور الكتب في الشرق والغرب، ويستطيع الباحث أن يعثر اليوم على أعداد كبيرة من هذه المخطوطات في كل من دار الكتب المصرية، ومكتبة الدولة في برلين، ومكتبة جامعة توبينغن (ألمانيا) ومكتبة شيستر بيتي في دبلن (ايرلندا) .
ويقول الباحث أحمد ايبش الذي عاين عن كثب هذه المخطوطات في مكتبات الدول المختلفة: "مما يؤسف له أن نعتبر انتقال هذه المخطوطات إلى مكتبات أوروبا "من حسن" حظ الباحثين والمخطوطات نفسها، وذلك- يضيف إيبش – لحسن العناية بهذه الأصول النادرة وجودة فهرستها، وسهولة الاطلاع عليها وتصويرها لمن يشاء من الباحثين، الأمر الذي يتعذر إلى حد كبير فيما لو كانت هذه المخطوطات مازالت باقية في بلادنا.