خاتم

عادل محمود - الوطن
مهداة إلى يوم الجلاء في الجهة اليسرى من الصدر، أحسست بحرارة غريبة، وأنا أرتدي قميصاً منسياً. تلمّستُ الجيب، كان ثمة شيء مصرور بمنديل ورق، فتحته، فاكتشفت خاتماً ذهبياً ناعماً، كنت أبحث عنه منذ شهرين.

في ظل هذه الظروف كان لا بد من بيع هذا الخاتم.
قبل ثلاثين سنة أهديت خاتماً لأول حب. وتذكرت تلك اللحظة التي مدّت إصبعها تلك الفتاة لتلبس وعداً، كثيراً ما يقطعه في إخلاص، المحبون على أنفسهم، أن سنبقى معاً إلى الأبد!

عند الصائغ أصابتني، لحظة وزن الخاتم، نوبةُ حنينٍ إلى تلك الأيام، حنين غامض، لكنه، في جانب منه غصّةُ أننا نتقدم في السن، ونتخلف في الحياة. حيث لم تبرهن بلادُنا، اليوم، على أنها أقل وحشةً ووحشية عن ذلك اليوم البعيد، قبل أن يرفع أجدادنا، فوق مبانينا، العلم الوطني، رمز استقلال البلاد، بعد أن كان الفرنسيون يسفكون الحياة السورية لمدة ربع قرن!

في لحظة المساومة، في لحظة التذكر القصوى لعاطفة كأنها تباع الآن، بوصفها ارتكاباً لجريمة القطيعة النهائية مع الذكرى... اختلطت الأفكار... فقريباً من الصائغ، في ساحة عرنوس، كان العمال ينتظرون من يطلبهم، وتحت الشمس يكسرون بصلتهم ويفتحون علبة السردين، التي لم تعد مثلما كانت. وجبة العاطلين من العمل. والاتحاد الأوروبي أراد معاقبة الحكومة فعاقب شعباً، والمرصد السوري يحصي عدد القتلى، وينسى الجائعين والمهجرين، والعاطلين من الأمل!

قلت للصائغ: «لا تزن هذا الخاتم بميزان الذهب، بل بميكال العاطفة! ولا تحسبه بأرقام العيارات، بل بكمية العطر التي اختزنها الخاتمُ من إصبعها طوال سنوات. قل لميزانك أن يحسب عيار تلك الدمعة التي هطلت من عينيها، وهي تعيد إليَّ خاتمها في لحظة الوادع الأخير...» ثم صمْتُ... فيما يحسب ويزن ويتردد... وكانت تتناهى من الشارع صرخات «نريد الحرية والكرامة»... فصرخت في وجه الصائغ «خلصّني... وادفع لي ما تشاء!».

خرجت من الدكان. لم أعرف كم أعطاني من النقود. وللغرابة، فجأة، لم أكن حزيناً، ولم تخطر ببالي أن جملة من البيان العاطفي في لحظة كهذه. كأن أقول: «عمرُ الحب طوال مدّة التحمّل». ولم أتساءل: كما فعل نيرودا: «أي بيت يسكن الحب بعد أن يرحل؟»... بل تذكرت تلك الفتاة كمنقذ لي. فعندما افترقنا كنت واثقاً أنها، ذات يوم، ستكون إلى جواري في اللحظة المناسبة!

هكذا كانت كطبيبة عثرت على جريح حيادي في الطريق الخالي من المنقذين... فأنقذته! «وفي الحب ليس هناك جرحى حياديون!».