خالد تاجا .. التغريبة الاخيرة

 

 

 خالد صويلح - تشرين

 

 

لا يحتاج خالد تاجا إلى مراثٍ، أو ألقاب كي ننتبه إلى أهميته في صناعة الدراما العربية. هناك شريط طويل من الأعمال اللافتة التي ستحمي اسمه من الفناء.

يكفي حضوره الباهر في «التغريبة الفلسطينية» كي نضعه في إطارٍ مذهّب. تلك النظرة العميقة المنبثقة من تضاريس وجهه التي تشبه الأرض التي غادرها قسراً، في ذلك المسير الجنائزي بعيداً عن البيت الأول، ونحو العراء...

دور استثنائي بكل المقاييس، لكن خالد تاجا سوف يفاجئنا على الدوام، مهما كان الدور قصيراً أم عابراً، فهو بطل الظل من دون منازع، ذلك الذي يعزز حضوره بالتفاتةٍ ما، بنبرة غير متوقعة، حين يكسو الشخصية بثراء روحي، سيترك أثره في الوجدان.

الدروس التي خلّفها لا تحصى، بخصوص مهنة الممثل. لم تغره يوماً، صورة النجم، ذلك أنه أخلص بعمق للشخصية التي كان يؤديها، في المقام الأول، وسعى بكل طاقته إلى رسم ذاكرة خاصة لها، متجاوزاً هشاشة السيناريو والإطار الضيّق للكتابة.

كأن الشخصية طائر في قفص، وهو من سوف يعلّمه الطيران إلى الفضاء الرحب، ليحطّ فوق شجرة القلب. لم يكن يوماً، ذلك الممثل صاحب الأدوار الجاهزة التي تتكرر في كل أعماله على غرار الآخرين بتلوينات طفيفة، بل صاحب الوجوه المتعددة بما يكفي لحياةٍ كاملة، بكل أطيافها. من هذا الباب على وجه التحديد، توغل خالد تاجا في دهاليز شخصياته، بقوة حدسه إلى صندوقها الأسود، لينبش داخلياتها، وبريقها، وإذا به يحوّل الطين الأول إلى صلصال في تشكيلات لا نهائية، بما يشبه متحف شخصيات متنقّلاً. أكثر من مئة شخصية، لعبها هذا الممثل البارع، خلال مسيرته الطويلة، بشغف التجربة، والمغامرة في مراودة أرضٍ جديدة، في كل مرّة.

الحضور التراجيدي المذهل، سوف ينسفه أحياناً بأدوار كوميدية مغايرة تماماً، فهو أشبه برحّالة أو مستكشف جزرٍ مجهولة، لا يركن إلى شاطئ، في إبحارٍ مستمر، بحثاً عن الثمار المحرّمة.

القامة المديدة والحضور الشخصي والتوق إلى المغامرة، كل هذه الصفات كرّست ممثلاً من طرازٍ خاص، سوف يكون الورقة الرابحة، في أي عملٍ يشارك فيه.

لا يهمّ أين نضع اسمه في القائمة، ذلك أن طيفه حاضر، ولو في ظهورٍ خاطف.. الأب، أو العاشق، أو المجرم، أو الشحاذ، أو الموظف الفاسد. علينا أن نتذكّر هنا الشخصية التي لعبها في «يوميات مدير عام» مثلاً، ومن ضفة أخرى، شخصيته في «هجرة القلوب إلى القلوب»، إلى أدوار أخرى لا تحصى، وكأننا في شارع مزدحم يضجّ بالحياة وصخب الأرواح.

ممثل شكسبيري، لا يمنع أن نراه على خشبة مسرح موليير أيضاً، فالفتى الذي استيقظت عيناه باكراً على عروض خيال الظل، والمسرح الشعبي، وسينما الأبيض والأسود، قبل أكثر من نصف قرن، حجز لنفسه مكاناً على الشاشة، يصعب نسيانه أو تجاهله، أو تكراره، نظراً لشغفه العميق في تحويل التراب إلى تبر، في مغامرة بلا ضفاف...