خبر عاجــــــــل..

نهلة السوسو. تشرين
لا يأتيك الخبر, في هذا العصر, كما كان في الماضي, ضمن رسالة مكتوبة أو عبر الهاتف, أو حتى على أجنحة الريح, في همس النميمة, بل يهاجمك اليوم ضمن سلة كاملة ومكتظة بالرئيسي والثانوي, وعليك أن تسبّح بحمد المخبر وتختار ما يهمك من الأخبار! يتحدث مذيع الشاشة في موضوع, ويدور تحته الشريط بلا توقف, ناقلاً عشرات الموضوعات, وربما قسموا الشاشة لتعرف, بالتزامن, ما يجري في مكان آخر, ورغم أن عشرات المعدين والتقنيين والمقدمين يشتركون في ملء هذه السلة فأنت وحدك الهدف والقصد, وأنت وحدك من يجب عليه التدرب على فصل الحواس لتسمع (في الوقت نفسه) بأذنيك موضوعات شتى, وتتابع بعينيك موضوعات أخرى لا علاقة لها بما تسمع, وقد ابتدعوا لك بالإضافة إلى هذا تعبيراً زوّقوه باللون الأحمر والوميض المستمر, والحرف المختلف عن لغة الشاشة:
خبر عاجل! وفي الإذاعة التي يستحيل عليها استخدام الألوان يسبق الخبر العاجل موسيقا متوترة خاطفة فإذ بنبض قلبك يتسارع وعقلك يلغى وتقع ضحية انفعال مفاجئ يشبه عملية الخطف, حتى لو كان الخبر العاجل من نمط الملك الفلاني هاتف الأمير العلاني, لأن اللون الأحمر والوميض المستمر والموسيقا المتوترة سبق أن احتلت في وعيك جزيرة ولو صغيرة وهم يصرفون أموالاً هائلة وأزمنة طويلة وعقولاً مستأجرة لتبقى أنت رهن انتظار الخبر العاجل, قبل أن تكتشف كم كنت مستلباً وغافلاً عما صنعوا بك في غرف عملياتهم!
على محطة بث تجريبي مازالت متواضعة بألوان شاشتها وتقاريرها ومذيعيها, ورد على الشريط الدوار خبر صغير معدود الكلمات: مرشح الرئاسة الأميركية نيوت غينفريتش: الفلسطينيون شعب تم اختراعه! هذا الخبر المهول (وهو مهول بلا مبالغة) لم يجد له مكاناً بين الأخبار العاجلة لتلك المحطات التي تزعم الريادة والعراقة وقوة التأثير, فقائل هذا الكلام ليس ممثلاً في استديوهات هوليوود ولا نجماً رياضياً في ملاعب أميركا, بل هو مرشح لرئاسة الدولة الاستعمارية الأولى في العالم, ونصّبتها دول الاعتلال العربي وسيطاً وحيداً لحل مشكلة شعب مازال يقاوم باللحم الحي مؤامرة محوه من الوجود منذ أكثر من ثلاثة وستين عاماً, ليحث الزمن خطاه ونسمع في النهاية أن شعب فلسطين وهم تم اختراعه, والوهم يمكن دحضه وإزالته من الوجود! وأنت حين تقرأ الخبر, لا يهمك مضمونه ما دام قائله هو نفس الغانفستر أو راعي البقر المقيم في الغرب الأميركي, الذي لا يرى في فلسطين إلا بضعة رعاة يفترض أنهم انقرضوا وعليهم أن يكفوا عن التطفل على الدولة الصهيونية الحضارية, بل يهمك غياب مثل هذا الخبر عن الشاشات التي تكتظ على مدار الثواني بأخبارها العاجلة عن انشقاق معسكر طلائع إدلب, ومجندين مزعومين على هذه الحدود أو تلك, وقد صدعوا رؤوسنا بأن الإعلام ممنوع من تغطية الخبر على أراضينا رغم اختراعهم لعشرات المراسلين غير المحترفين إلاّ على طريقتهم وتلقينهم عبر تزويدهم بالتكنولوجيا المتطورة والمهربة ورغم وجود صحفيين هنود وتشيك وروس, وصينيين ولاتينيين وطليان (من ينسى رفض كل المحطات الإيطالية عرض الأفلام التي صورتها مجموعة إعلاميين في سورية؟),
إلا أن النرجسية ضربت رأس محطتين اثنتين تتنافسان على التزوير وتتسابقان في مضمار تنافس حاكميها على تدمير سورية, وكأن لا إعلام في العالم إلا هما, وإن لم تنزلا إلى الميدان بالأسلحة المسمومة فلا اعتراف بأي إعلام آخر, وفي هذا تشاوف وعنصرية مضحكة أين منها ما قاله نيوت المذكور الذي ربما ظن نفسه يقرأ مقطعاً من مسرحية تنتمي إلى مسرح العبث, وهو المسرح الذي انتشر لفترة قصيرة وبين جمهور ضربه الملل من الثقافة الغربية المادية, واخترع لطمس المسرح الإنساني العظيم الذي بقي خالداً لأنه انتمى إلى قضايا الإنسان, وماذا لو فكرت إحدى المحطتين المذكورتين بتقديم فيلم تسجيلي عن مرشح الرئاسة الأميركية هذا فقد نكتشف أنه أحد المنشقين عن الجسد السوري ما دامت سورية شغلهما الشاغل في الأخبار العادية وتلك العاجلة؟